المذاهب الفقهية في السعودية.. الائتلاف الواعي والسياسة الحكيمة

يعيش في المملكة كل المذاهب الفقهية المعروفة، وهي أقليات مقابل المذهب الحنبلي شبه الرسمي، الذي تبنته الدولة في فترات طويلة من عمرها، وأصبح هو مذهب القضاء والفتوى لعقود من الزمن، ومع ذلك فإن حكمة القيادة السياسية وفقه علماء المملكة جعلت من هذه المذاهب مصدر ثراء وغنى للمدارس الفقهية بشكل عام، فمنذ أن جمع الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- أئمة المذاهب وجماعاتهم في الحرم المكي على إمام واحد عام 1926م؛ والوحدة والانسجام تنمو وتترعرع في بلادنا المباركة؛ بعدما كانت الفرقة والانقسام تسود المجتمع، حتى داخل المسجد الحرام، حيث كان كل مذهب يقيم صلاته في مقامه الخاص.

وهذا المنجز الديني والحضاري؛ قلّما يُشار إليه؛ رغم أهميته في مسيرة دولتنا المباركة، وفي هذا المقال أعرض أهم ملامح هذا الائتلاف المذهبي والسياسة الحكيمة للدولة في تعاملها مع الاختلاف المذهبي، من خلال ما يلي:

أولاً: إن المدرسة العلمية لمشايخ نجد لم تكن تفتي إلا بالراجح من المذهب، والموافق للدليل الصحيح، وهذه المدرسة ترسخت مع مفتي المملكة السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز بشكل واضح ولم يجرؤ أحد من العلماء على مخالفته، وهذا النظر الذي يمزج بين الراجح من المذهب والصحيح من الحديث؛ يتفق عليه غالب فقهاء المذاهب المعاصرين في السعودية، وكم من المسائل المشهورة تم الإفتاء فيها بخلاف المذهب الحنبلي، وأصبح العمل بآراء مذاهب فقهية أخرى صح معها الدليل، وقد ورد في سؤال للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء رقم (9580) عن مرجع اللجنة في فتاواها، فكان نص الجواب: «اللجنة إنما تفتي بما يظهر لها من الأدلة الشرعية سواء وافق المذاهب الأربعة المعروفة، أو وافق أحدها، ولا تتقيد بمذهب معين» (انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، من المجموعة الثانية، جمع أحمد الدويش، ونشر رئاسة البحوث العلمية، 2007م، 7/ 5). ورغم هذه المنهجية المميزة في الفتوى، فقد صدر الأمر الملكي في الثاني من شهر (سبتمبر) 2024 بإعادة تشكيل هيئة كبار العلماء، ومن ضمنهم فقهاء من المذاهب الأربعة.

هذا الوعي الفقهي أدى أيضاً إلى تمازج وتشارك فقاء المذاهب الأربعة مع علماء الحنابلة في الجامعات والمحاكم؛ خصوصاً جيل ما بعد الثمانينات الميلادية، فهذه الأجيال درست الفقه الحنبلي مقارناً بالمذاهب الأخرى، وعادة ما يتم الترجيح بناءً على الدليل إذا صح؛ ولو خالف المذهب الحنبلي، ما أدى إلى نزع فتيل أي تعصب أو تكتّل يقود إلى مواجهات مذهبية بين المشايخ أو طلابهم، وهذا الأمر أسهم أيضاً في تقوية واستقرار المذهبية الدينية في السعودية في إطارها الفقهي دون أي توترات تثير العصبيات بين فقهاء المذاهب.

ثانياً: كان القضاء في المملكة يعتمد على المذهب الحنبلي، وقد أُلزم القضاة باعتماد المذهب في القضاء عام 1928م، ثم رُفع الإلزام عام 2001م، وهناك دراسة تذكر ما جرى عليه العمل القضائي في المملكة على خلاف المذهب الحنبلي، فقد ذكرت الدراسة أن القضاء السعودي خالف المذهب في قرابة ثمانين مسألة، منها: ثلاثون مسألة إلزامية، وأربعون اجتهادية، وسبع مسائل اختيارية. (انظر: كتاب ما جرى عليه في محاكم التمييز خلافاً للمذهب الحنبلي، د. فيصل الناصر، دار الحضارة للنشر، 2020م)، وهذه الدراسة مثال على واقع تطبيقي سمح للقضاة بالاجتهاد والاختيار الأقرب للدليل، دون الالتزام بآراء المذهب بشكل خاص.

واليوم ومع رؤية 2030 الواعدة، كان هناك اهتمام كبير بالتطوير التشريعي للقضاء في المملكة؛ اعتمد عدداً من الإصلاحات القضائية، ومن ذلك: الإعلان عن نظام الأحوال الشخصية، ونظام المعاملات المدنية، والنظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، ونظام الإثبات، في الفترة من 2021- 2023م، وهي أنظمة اعتمدت على المواد القانونية في صياغتها، مستنيرةً بفضاء الفقه الرحب، وهذا ما أدى إلى انفتاح الفقه القضائي، وعدم تعصبه على مدرسة بعينها أو مذهب فقهي خاص، كذلك الثروة التشريعية في اللوائح التنظيمية التي أصدرتها وزارة العدل خلال الفترة الماضية تؤكد هذا المنحى الأصيل في الاعتماد على الرأي الراجح والأصلح من المذاهب الفقهية. (انظر: https:/ / laws.moj.gov.sa/ ).

هذه العوامل مجتمعة أدت في غالب تاريخ المملكة المعاصر إلى استقرار المذهبية الفقهية وعدم تزعزعها بين مواطني السعودية، وهذا الأمر مشهود في واقع مجتمعنا السعودي المعاصر.

ثالثاً: هناك سؤال تثيره أحياناً وسائل الإعلام الأجنبية أو الموالية لها، عن وجود تشدد ديني وعقدي لدى بعض علماء المملكة المتأثرين بأقوال بعض أئمة الدعوة الوهابية في مسائل البراء والتكفير وهجر المبتدع وغيرها، فهل كانت تعقيدا وغلوا في مدرستنا المذهبية؟

وللإجابة عن هذا السؤال؛ يجب أن نعترف أولا أن غالب مواطني المملكة هم من أهل السنة والجماعة، وملتزمون بمعتقد السلف الصالح، لا يخالف ذلك إلا قلة، وهناك تفهّم وتعقّل مشترك في عدم إثارة تلك المسائل المحدودة في المجال العام، لأنها مسائل فرعية غالباً لا يرتبط بها الجانب العملي اليومي للمسلم.

أما المسائل العقدية التي يختلف فيها أهل السنة مع غيرهم من المذاهب والطوائف الأخرى، فهي مسائل داخلة في الشأن الخاص للمسلم، وقد جرت عادة علماء المملكة في رفض كل ما يسبب الخلاف المفرِّق للّحمة الوطنية ونبذ المتشدّدين في هذا الباب؛ بل سعت المملكة من خلال.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة عكاظ

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة عكاظ

منذ ساعتين
منذ 10 ساعات
منذ 8 ساعات
منذ 11 ساعة
منذ ساعتين
منذ 3 ساعات
صحيفة سبق منذ 11 ساعة
قناة الإخبارية السعودية منذ 8 ساعات
أخبار 24 منذ 4 ساعات
صحيفة سبق منذ 7 ساعات
صحيفة سبق منذ 8 ساعات
صحيفة سبق منذ ساعتين
صحيفة عكاظ منذ 23 ساعة
صحيفة الشرق الأوسط منذ 22 ساعة