ملخص: وضعت السعودية الابتكار على رأس أولوياتها في جميع القطاعات؛ إذ خططت لوصول الإنفاق السنوي على قطاع البحث والابتكار إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2040، وقد احتل قطاع المياه مكانة مهمة ضمن توجهات السعودية الخاصة بالابتكار، ولا سيّما أن المملكة تعد من أكثر الدول شحاً للمياه؛ إذ تحتل المملكة المرتبة الثامنة على مؤشر شح المياه. يركّز المقال على إبراز 5 تقنيات رئيسة من وزارة البيئة السعودية لمواجهة تحديات قطاع المياه المتمثلة في تقليل تكلفة تحلية المياه، وترشيد استهلاك في المنازل، ومعالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها، وهي: 1. أنظمة التناضح العكسي المتقدمة، 2. إدارة التسرب الذكي، 3. معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها، 4. الري المبتكر، 5. الاستهلاك المبتكر للمياه في المنازل.
تخيّل المشهد الآتي: نحن الآن في عام 2050، حيث يبلغ عدد سكان كوكب الأرض نحو 9.7 مليار، ويعاني أكثر من نصفهم من ندرة المياه، حينها قد سيصل عدد الوفيات سنوياً بسبب عدم كفاية إمدادات المياه النظيفة إلى رقم غير مسبوق؛ إذ يبلغ الآن 3.5 مليون نسمة، وسيضطر ملايين الناس إلى الهجرة القسرية بسبب الجفاف.
هذا المشهد القاتم هو المستقبل الذي ينتظر كوكب الأرض وفقاً لتقارير منظمة الأمم المتحدة، ما لم يقف قادة العالم أمام تهديد انعدام الأمن المائي على نحو جاد. ووسط التحديات الحالية؛ وأبرزها شح المياه بشكل عام وانحسار مستوى المياه الجوفية بشكل خاص، وكذلك ذوبان الأنهار الجليدية؛ تبدو الحلول التقليدية عاجزة عن حلها، ليظهر الابتكار منقذاً يمكنه تسريع حل هذه الأزمة.
وفي حين أن أزمة شح المياه وندرتها تعد أزمةً عالمية، هناك من يعاني أكثر من غيره؛ مثل دول مجلس التعاون الخليجي التي تفتقر إلى مصادر المياه السطحية (الأنهار والأمطار)، إلى جانب بعض الاستخدامات غير المستدام للموارد الموجودة (المياه الجوفية)؛ ما يجعل الابتكار أكثر إلحاحاً، وهذا ما أدركته المملكة العربية السعودية التي تبنّت استراتيجية مُلهِمة تتضمن خطوات واضحة ومنظّمة لتحقيق الأمن المائي والاستدامة عبر الابتكار وتبني وتطوير التقنيات المتقدمة.
وضعت السعودية الابتكار على رأس أولوياتها في جميع القطاعات؛ إذ خططت لوصول الإنفاق السنوي على قطاع البحث والابتكار إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2040، وقد احتل قطاع المياه مكانة مهمة ضمن توجهات السعودية الخاصة بالابتكار، ولا سيّما أن المملكة تعد من أكثر الدول شحاً للمياه؛ إذ تحتل المملكة المرتبة الثامنة على مؤشر شح المياه.
وقد ترجمت وزارة البيئة والمياه والزراعة هذه الأولوية للابتكار بشكل ممنهج، فأسست وكالة للبحث والابتكار، ووضعت خارطة طريق منظَّمة لتبنّي التقنيات المناسبة بناءً على رصد التحديات، والتقنيات، واختيارها، ثم اتباع منهجية واضحة للتنفيذ، فما هو هذا النهج بالضبط؟ وما هي التقنيات التي تعمل عليها الوزارة حالياً لتحقيق الاستدامة في قطاع المياه؟ وما هي المبادرات الممكنة التي تعمل عليها؟ وكيف تضمن تنفيذها لتحقيق الاستفادة المنشودة؟
منهجية اختيار التقنيات ذات الأولوية
بدأت وزارة البيئة والمياه والزراعة خطتها التنفيذية للبحث والابتكار بتحديد نطاق التركيز الاستراتيجي الموجه نحو تبني الحلول التقنية المبتكرة ذات الأولوية لسد الاحتياجات في قطاع المياه؛ حيث بدأت النظر في التحديات التي يواجهها قطاع المياه في المملكة، ودرست الأثر المتوقَّع من تبني التقنية على هذه التحديات، ثم نظرت في قائمة مطولة من حلول التقنية والابتكار المتاحة للتبني، ورتبت أولويات الحلول بناءً على عدد من المعايير، ثم خرجت بقائمة من الابتكارات الأكثر تأثيراً وجاهزية للتبني والتوسع فيها بحيث توفر حلولاً لتحديات قطاع المياه الأكثر إلحاحاً على المديَين القصير والمتوسط.
رصدت الوزارة في هذه المرحلة 16 تحدياً وفرصة في قطاع المياه موزعين على 5 قطاعات فرعية وهي سلسلة القيمة للمياه التي تبدأ بالإمداد، ومن ثم النقل والتخزين، والتوزيع، ومعالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها، وانتهاء بالطلب. على سبيل المثال؛ يضم قطاع الطلب فرصاً مثل تقليل مستويات استهلاك المياه في المناطق الحضرية، والحد من استخدام المياه غير المتجددة (المياه الجوفية)، وتقليل استهلاك مستويات المياه الصناعية. ثم، رُصدت 20 مجموعة تقنية مقسمة على هذه القطاعات الفرعية؛ فمثلاً يضم قطاع الطلب تقنيات مثل استهلاك المياه المبتكرة للمنازل، والاستهلاك المبتكر للمياه في الصناعة، والاستهلاك المبتكر للمياه.
بعد ذلك، قُسمت هذه التقنيات من ناحية التنفيذ إلى 3 موجات؛ الموجة الأولى تضم 5 مجموعات تقنية عالية الأولوية تُتبنَّى في عامَي 2024 و2025، والموجة الثانية تضم 5 تقنيات أخرى تُتبنَّى بعد عام 2025؛ بينما سيُنظر في الموجة الثالثة بين عامَي 2026 و2030 حسب الجاهزية للتبني.
5 تقنيات عالية الأولوية لأكثر التحديات إلحاحاً
حددت الاستراتيجية التنفيذية للبحث والابتكار بالوزارة 5 مجموعات تقنيات رئيسة لمواجهة تحديات قطاع المياه المتمثلة في تقليل تكلفة تحلية المياه، وترشيد استهلاك في المنازل، ومعالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها؛ وهي كالتالي:
1. أنظمة التناضح العكسي المتقدمة
تنتج المملكة يومياً ما مقداره 11.5 مليون متر مكعب، ما يجعل المملكة في صدارة الدول المنتجة للمياه المحلاة عالمياً، ومن هنا تكمن أهمية تبني الابتكارات والحلول التقنية التي تساعد في رفع كفاءة إنتاج المياه المحلاة وزيادة فعاليتها. في مقدمة هذه الحلول والتقنيات تأتي أنظمة التناضح العكسي المتقدمة لتلعب دوراً محورياً في تحسين إنتاج المياه المحلاة في المملكة وتطويرها.
ويُقصد بالتناضح العكسي عملية لتنقية المياه، عن طريق ضغط الماء الذي يدفع ماء الصنبور عبر غشاء رقيق وشبه نفّاذ ذو مسام ضيقة لتصفية المياه النقية؛ بينما تُحجز الجزيئات الأكبر مثل الأملاح الذائبة والشوائب الأخرى مثل البكتيريا. وينتشر استخدام تقنيات التناضح العكسي المتقدمة على نطاق واسع في المملكة. ويعد معهد ابتكار تقنيات المياه والأبحاث؛ الذي هو جزء من الهيئة السعودية للمياه، معهداً رائداً بحثياً في هذا الصدد. علاوة على ذلك، تشارك جامعات رائدة مثل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية بفعالية في برامج بحثية ترّكّز على تطوير تقنيات التناضح العكسي.
2. إدارة التسرب الذكي
كميات كبيرة يتم هدرها من المياه في مرحلة النقل والتوزيع؛ ما يجعل أنظمة إدارة التسرب الذكية التي تعمل على اكتشاف التسربات وتحديد موقعها والتخفيف منها في مرحلتَي النقل والتوزيع فعالة في تقليل المياه المهدرة، ولا سيّما أن الاستراتيجية الوطنية للمياه تهدف إلى تقليل المياه المهدرة بنسبة 15% وكذلك ضمان استمرارية إمدادات المياه بنسبة 100%.
وتتضمن إدارة التسرب الذكية تقنيات الكشف المباشر عن التسرب باستخدام التقنيات التي تتضمن الفحص اليدوي لنظام التوزيع في الموقع لتحديد حالات التسرب، وتقنيات اكتشاف التسرب عن بُعد باستخدام التقنيات وعمليات تحليل البيانات المتقدمة لتحديد حالات التسرب دون إمكانية الوصول المادي المباشر إلى نظام توزيع المياه، وتقنيات التخفيف من التسرب؛ التي هي تقنيات وأجهزة وأنظمة لتحديد التسريبات في وقت مبكر، والتخفيف من تأثيرها، ومنع المزيد من الضرر؛ مثل لحام الوصلات عن بعد وطلائها، وسد مكان التسرب تلقائياً بوساطة مواد معالجة.
3. معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها
تهدف السعودية إلى معالجة مياه الصرف المجمّعة بنسبة 100%، ويمكن لتقنيات معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها تحسين معدل إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالَجة من 17% إلى 70% بحلول عام 2030، وزيادة نسبة السكان الذين تشملهم خدمات الصرف الصحي من 60% إلى 75% بحلول عام 2030.
تشمل معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها مجموعتين من المجموعات التقنية؛ الأولى هي المعالجة المبتكرة أي استخدام العمليات والتقنيات المتقدمة لمعالجة مياه الصرف الصحي؛ مثل إزالة المواد الصلبة المعلقة، والمعالجة الحيوية، والتطهير، والامتصاص، والثانية هي التقنيات التكيفية لإعادة استخدام مياه الصرف الصحي لأغراض مفيدة بدلاً من تصريفها في البيئة؛ مثل إعادة تدوير المياه، وأنظمة الترشيح، وأنظمة إعادة تدوير المياه الرمادية.
4. الري المبتكر
بحسب الاستراتيجية الوطنية للمياه في المملكة يعتبر قطاع الزراعة هو المستهلك الأكبر للمياه في المملكة، بنسبة تشكل 84% من إجمالي الطلب على المياه، ومن هنا برزت أهمية تبني الحلول الابتكارية والتقنية في مجال الري في القطاع الزراعي، حيث يمكن أن تقود تقنيات الري المبتكر إلى تخفيض كبير في استخدام المياه مقارنةً بنظام الري التقليدي. فعلى سبيل المثال؛ يمكن أن تؤدي تقنيات الري الجزئية إلى تقليل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 10%.
وتشمل تقنيات الري المبتكر مجموعة متنوعة من الأنظمة؛ مثل:
الري الخّطي: نظام الري الميكانيكي الذي يوّزع المياه على المحاصيل في خط مستقيم باستخدام آليات الرشاشات.
الري المحوري المركزي: نظام الري الميكانيكي لسقي الحقول الكبيرة باستخدام آلية الرشاشات التي تناسب الأراضي المسطحة.
الري الجزئي/الري بالتنقيط: نظام الري الذي يوصل المياه مباشرة إلى جذور النباتات بكميات صغيرة يمكن التحكم بها باستخدام شبكة من الأنابيب تطلق الماء على هيئة قطرات أو بتدفق بطيء وثابت.
الري الذكي: أنظمة تتضمن أجهزة استشعار، وبيانات الطقس، والاتصال بالإنترنت لمراقبة جداول الري وضبطها على الظروف السائدة وقت الري الفعلي.
5. الاستهلاك المبتكر للمياه في المنازل
على الرغم من شح المياه في المملكة، يستهلك المواطنون معدلات تتجاوز 275 لتراً يومياً للفرد؛ وهذا رقم كبير مقارنة بالبلدان ذات مستويات الدخل المماثلة مثل ألمانيا؛ حيث يبلغ الاستهلاك فيها قُرابة 120 لتراً للشخص الواحد يومياً، إذ بلغ استهلاك المياه في المملكة 3.5 مليار متر مكعب في عام 2022. وقد حددت الاستراتيجية الوطنية للمياه في المملكة تقليص هذا المعدل إلى 150 لتراً للفرد بحلول عام 2030؛ وهو أمر يتطلب رفع الوعي باستخدام التقنيات وتقليل الاستهلاك المحلي للمياه، مع العمل على رفع كفاءة الري.
ويمكن تصنيف تقنيات استهلاك المياه المبتكرة ضمن تقنيتين رئيستَين: أنظمة التحكم والإدارة الآلية، وتقنيات بستنة الحدائق الفعالة.
توفر أنظمة التحكم والإدارة الآلية تقنيات لتعزيز فاعلية استخدام المياه في المنازل؛ مثل ملحقات الصنابير التي تتضمن شاشة لعرض كمية المياه المتدفقة، وإكسسوارات دورات المياه الذكية التي تعتمد على التدفق المنخفض للمياه، والتحكم الذكي بالمياه المستخدمة في الهواء الطلق، والمراحيض الذكية، وأنظمة كشف التسرب ومراقبته.
بينما تُمكّن تقنيات بستنة الحدائق الفعالة من اتباع ممارسات تنسيق الحدائق الموفرة للمياه في البيئات المنزلية؛ مثل التربة التي تحتفظ بالمياه، والحدائق الجافة، وتجميع مياه الأمطار، والري الجزئي، وأنظمة التنقيط، وأنظمة إعادة تدوير المياه الرمادية.
خطة الوزارة التنفيذية لتبني التقنيات ونشرها
حددت الوزارة 4 مبادرات رئيسة لضمان تبني الابتكارات والحلول التقنية السابقة ونشرها على نطاق واسع؛ وهي:
توجيه الخطط والمساعي والموارد المخصصة وتنسيقها لتبني التقنية والابتكار في قطاع المياه.
تحسين الترابط والتعاون بين الجهات الفعالة في تبني التقنية والابتكار لتعزيز الشراكات والتآزر وتبادل الخبرات ونشر المعارف ضمن القطاع، وتعزيز الوعي بجهود منظومة المياه ونجاحاتها في تبني التقنية والابتكار في خططها وعملياتها لخلق زخم إيجابي في القطاع يضمن استدامة الجهود.
تحفيز الطلب على تبني منتجات التقنية والحلول الابتكارية في قطاع المياه، وتحسين استجابة الطلب للعرض المتاح من التقنيات من خلال التدابير المدروسة والحوافز المستهدَفة.
بناء قدرات البحث والتطوير والابتكار في قطاع المياه لضمان إمداد محلي كافٍ ومستمر من منتجات التقنية والحلول الابتكارية.
تحت هذه المبادرات الاستراتيجية، أطلقت الوزارة برامج متخصصة تسهّل تبنّي هذه التقنيات؛ مثل برنامج برهنة التقنيات ذات الأولوية من خلال تجريبها في بيئاتها الحقيقية لتكييفها وتوظيفها؛ كما أطلقت مبادرة مراجعة الأطر التشريعية وتطويرها وتعديلها لمعالجة العوائق بالتنسيق مع الجهات المنظمة.
من خلال هذه الخطة الاستراتيجية التي يقع الابتكار في قلبها، تفتح المملكة المجال لكافة اللاعبين الرئيسيين الدوليين والمحليين في مجال الابتكار والتقنيات في قطاع المياه من منظمات وشركات وجهات بحثية وحتى المبتكرين الأفراد للتعاون والإسهام في حل هذه التحديات وتقديم الحلول النوعية واستغلال الفرص المتاحة لتحقيق المستهدفات المشتركة وصولاً لاستدامة الموارد المائية
هذا المحتوى مقدم من هارفارد بزنس ريفيو