شهدت مصر انخفاضاً ملحوظاً في الدين الخارجي بأكثر من 15 مليار دولار في النصف الأول من العام الجاري، ما يمثل خطوة إيجابية في ظل التحديات المالية العالمية الناتجة عن التوترات في الشرق الأوسط. يأتي هذا التراجع نتيجة للإصلاحات الاقتصادية التي نفذتها الحكومة، وفقاً لما أعلنه رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمر صحفي.
تثير هذه التطورات تساؤلات حول تأثيرها على الاقتصاد المصري، بما في ذلك سعر الصرف، والاحتياطي الأجنبي، واستقرار المالية العامة في البلاد، إذ يعكس هذا الانخفاض الجهود المبذولة لتعزيز الاستدامة الاقتصادية في مواجهة الضغوط العالمية.
تراجع الديون الخارجية
تصريحات مدبولي تتوافق مع تقرير للبنك المركزي المصري أعلن عنه في 14 أكتوبر الماضي، وأظهر انخفاض الدين الخارجي لمصر إلى 152.9 مليار دولار بنهاية يونيو 2024، مقارنةً بـ168.034 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2023، بانخفاض سجل 9.9%.
ووفقاً لتقرير البنك المركزي، تراجع الدين الخارجي طويل الأجل ليصل إلى 126.8 مليار دولار في نهاية يونيو، بعد أن كان 138.551 مليار دولار في ديسمبر 2023. في المقابل، انخفض الدين الخارجي قصير الأجل إلى 26.24 مليار دولار، بعد أن سجل 29.482 مليار دولار في نهاية ديسمبر.
وأشار إلى تراجع الديون الخارجية المستحقة على الحكومة إلى 80.178 مليار دولار، مقارنةً بـ84.849 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2023، ما يعكس جهود الحكومة في تخفيض التزاماتها الخارجية. كما انخفض حجم الديون المستحقة على البنك المركزي لـ34.668 مليار دولار في يونيو، مقابل 45.314 مليار دولار بنهاية عام 2023.
نجاح الإجراءات الاقتصادية
وبحسب عدد من خبراء الاقتصاد، فإن هذا التراجع جاء بدعم من نجاح الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة المصرية مثل تحرير سعر الصرف في مارس الماضي، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة تحويلات المصريين بالخارج وعوائد قطاع السياحة، ما دعم قدرة الحكومة على سداد التزاماتها الدولية.
وساعدت هذه الإجراءات أيضاً وفق الخبراء في تحسين أوضاع الجهاز المصرفي، وارتفاع صافي الأصول الأجنبية إلى 13.2 مليار دولار في يوليو 2024، وصافي احتياطي النقد الأجنبي بالبنك المركزي إلى 46.6 مليار دولار.
سداد الالتزامات المستحقة
يأتي تراجع الدين الخارجي لمصر، نتيجة سداد العديد من الالتزامات الدولية، أبرزها سندات وأذون خزانة أصدرتها الدولة في وقت سابق، وجاء موعد استحقاقها خلال العام الحالي، وفق أستاذ الاقتصاد الدكتور كريم العمدة.
وتمثل هذه السندات كما يشير العمدة في حديث لـ«إرم بزنس» جزءاً من الديون الرسمية التي حصلت عليها مصر بعملات مختلفة، منها الدولار واليورو، بهدف تمويل مشروعات بنية تحتية أو لدعم الاحتياطي النقدي في فترات سابقة وسعر الصرف.
ومنذ تحرير سعر الصرف في 6 مارس الماضي، تدفقت نحو 37.5 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة على أذون وسندات الخزانة المصرية، للاستفادة من عائدها المرتفع الذي وصل إلى 27% في المتوسط، وفقاً للبنك المركزي.
دعم خليجي للاحتياطي الأجنبي
كما ساهمت ودائع دول الخليج لدى البنك المركزي، التي سجلت 41.6 مليار دولار بنهاية مارس الماضي، ورغبة البعض في تحويلها إلى استثمارات، في استقرار الجنيه المصري، ودعم موارد مصر الدولارية، ما قلل الضغط على العملة المحلية، وعزز من قدرة الدولة على سداد ديونها الخارجية، وفق أستاذ الاقتصاد.
في أغسطس الماضي، أعلن وزير الاستثمار السعودي، خالد الفالح، خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء المصري، أن المملكة تعتزم تحويل ودائعها لدى البنك المركزي إلى استثمارات مباشرة.
وتحتفظ السعودية بودائع لدى البنك المركزي بقيمة إجمالية تصل إلى 10.3 مليار دولار، ما يمثل 7.8% من إجمالي الدين الخارجي لمصر. وتشمل هذه الودائع 5 مليارات دولار قصيرة الأجل تُجدد سنوياً، وودائع متوسطة الأجل بقيمة 5.3 مليار دولار، يستحق سدادها في أكتوبر 2026، بحسب المركزي المصري.
جذب الاستثمارات الأجنبية
ومن الأسباب التي ساعدت مصر أيضاً في خفض الديون الخارجية، وفق الخبير الاقتصادي على الإدريسي، توسّع الحكومة في جذب الاستثمارات الأجنبية خلال الفترة الماضية، مثل صفقة رأس الحكمة التي قدرت بـ35 مليار دولار، بالإضافة إلى ارتفاع تحويلات المصريين بالخارج، وعوائد السياحة، ما أسهم في استقرار الاحتياطي الأجنبي وتخفيف العبء المالي.
وفي فبراير الماضي، أبرمت الحكومة المصرية اتفاقية مع شركة «إيه دي كيو» القابضة الإماراتية لتطوير مشروع مدينة رأس الحكمة الواقعة شمالي القاهرة، على مساحة تبلغ 170.8 مليون متر مربع، وباستثمارات تصل إلى 150 مليار دولار.
كما ارتفعت تحويلات المصريين العاملين بالخارج إلى 3 مليارات دولار في يوليو الماضي، مقابل 1.6 مليار دولار في الشهر نفسه من العام 2023، بزيادة بلغت 87%، كما استقبلت مصر في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري 7 ملايين سائح، بإيرادات بلغت 6 مليارات و600 مليون دولار.
تحقيق الاستقرار الاقتصادي
ويرى الإدريسي، في حديث لـ«إرم بزنس» خفض الديون كأحد أهم الخطوات لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، إذ يساعد هذا التراجع في تحسن السيولة المالية، وسعر الصرف، بدعم من تراجع الطلب على الدولار بعد سداد الالتزامات الدولية، ما يؤدي إلى المساهمة في خفض معدلات التضخم نتيجة استقرار قيمة العملة المحلية، وزيادة القدرة الشرائية للمواطنين.
وعانت مصر من ارتفاع معدلات التضخم خلال العام الماضي، إذ ارتفع إلى قرب 40%، نتيجة الزيادات الكبيرة التي طالت سعر الدولار مقابل الجنيه، بسبب أزمة نقص العملة الأميركية، وتجاوز سعرها 70 جنيهاً في السوق السوداء، قبل أن تتراجع إلى مستويات 48.52 جنيه عقب تحرير سعر الصرف في مارس الماضي.
ويشير الإدريسي إلى أن خفض الديون يمنح الفرصة لزيادة الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي، خاصة مع قلة الحاجة لتوفير الدولار من أجل سداد القروض، ويساعد هذا على تحسين قدرة الدولة على مواجهة الأزمات الاقتصادية أو تقلبات أسعار الصرف العالمية. كما أنه يمكنها من خفض أعباء الفوائد على الموازنة العامة، ومن ثم إمكانية توجيه الفائض إلى قطاعات خدمية وتنموية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية.
ووفقاً لأحدث بيانات من البنك المركزي، فإن صافي الاحتياطيات الدولية لمصر ارتفع إلى 46.597 مليار دولار في أغسطس من 46.489 مليار دولار في يوليو.
تحسين التصنيف الائتماني
بدوره، يؤكد الخبير المصرفي محمد عبد العال في حديث مع «إرم بزنس» أن الإصلاحات الاقتصادية والسياسات المالية والنقدية كان لها دور كبير في تمكين الدولة من سداد التزاماتها الدولية، التي تمثلت في إعادة ترتيب أولويات الإنفاق، وزيادة إيراداتها من خلال رفع الدعم تدريجياً، وتحرير سعر الصرف، وجذب الاستثمارات الأجنبية.
ويوضح أن تراجع الدين الخارجي يشكل عاملاً إيجابياً لتحسين التصنيف الائتماني لمصر، إذ سيُنظر إلى الدولة على أنها أقل مخاطرة وأكثر قدرة على الوفاء بالتزاماتها الدولية، ما يُسهل عليها جذب استثمارات أجنبية في المستقبل.
وقبل يومين، رفعت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني النظرة المستقبلية لتصنيف مصر الائتماني طويل الأجل بالعملة الأجنبية من «مستقر» إلى «إيجابي»، ويعكس هذا التعديل التحسن في مرونة الاقتصاد المصري وتراجع نقاط الضعف الخارجية.
كما توقعت «فيتش» ارتفاع احتياطيات النقد الأجنبي في مصر إلى 53.3 مليار دولار بحلول العام المالي 2025، فضلاً عن نمو احتياطيات النقد الأجنبي بمقدار 16.2 مليار دولار، لتصل إلى 49.7 مليار دولار خلال السنة المالية 2024.
سياسة اقتراض أكثر انتقائية
ورغم الانعكاسات الإيجابية من تراجع الديون، قد يتجه الاقتصاد المصري إلى الاقتراض الدولي مجدداً إذا ظهرت احتياجات تمويلية جديدة، خاصة للمشروعات القومية التي تتطلب موارد ضخمة، كما يشير الخبير المصرفي.
ولكنه يتوقع أن يكون الاقتراض المقبل أكثر انتقائية، إذ تلجأ الحكومة إلى إصدار سندات بمعدلات فوائد أقل وشروط ملائمة أكثر، وهو ما يعكس توجهاً جديداً في إدارة الدين لتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار المالي.
60 مليار دولار التزامات جديدة
ورغم نجاح مصر في سداد 15 مليار دولار من ديونها، يشير البنك الدولي إلى أنها مطالبة بسداد التزامات مالية تصل إلى 60.8 مليار دولار خلال العام المالي الحالي، الذي يمتد من يوليو 2024 حتى يونيو 2025، و21.7 مليار دولار خلال العام المالي المقبل.
ووفقاً للبنك الدولي، يشمل جدول المديونية التزامات بقيمة 14.7 مليار دولار كان يجب سدادها في الربع الأول من العام المالي، الذي انتهى بالفعل، فيما تقدر قيمة الالتزامات المستحقة في الربع الحالي بنحو 15 مليار دولار.
وتصل ذروة جدول السداد في الربع الثالث، الذي يبدأ في يناير المقبل، بقيمة 20.59 مليار دولار، في حين تتراجع الالتزامات الخارجية في الربع الأخير إلى 10.5 مليار دولار. وتنقسم هذه الالتزامات إلى 52.8 مليار دولار كأصل دين، و8.1 مليار دولار كفوائد.
ويتعين على البنك المركزي المصري سداد ودائع بقيمة 20.8 مليار دولار خلال العام المالي الحالي، وهي ودائع يُجدَّد معظمها بصفة دورية، فيما تستحق على الحكومة سندات بقيمة 3.3 مليار دولار.
ويشمل جدول السداد قروضاً بقيمة 31.04 مليار دولار على عدة جهات، إذ يجب على الحكومة سداد 13.6 مليار دولار، والبنك المركزي 2.5 مليار دولار، والبنوك نحو 13.3 مليار دولار، فيما تلتزم القطاعات الأخرى بقروض تصل إلى 1.7 مليار دولار، إلى جانب التزامات تتعلق بتسهيلات تجارة خارجية بقيمة 4.9 مليار دولار.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس