لم تقترع الغالبية الأميركية بالضرورة لدونالد ترامب ولا ضد كامالا هاريس، لكنها اقترعت بالتأكيد ضد المشروع السياسي والاجتماعي للحزب الديمقراطي، الذي فرضته نخبة من مثقفي الحزب وناشطيه، وهو مشروع يتعارض وفطرة الشعب الأميركي والأفكار التأسيسية للدولة الأميركية. لهذا السبب، اكتسح ترامب هاريس.
على مدى العقد الماضي، وبتأثير من عرّاب أقصى اليسار السناتور الديمقراطي بيرني ساندرز، مضى الحزب الديمقراطي الأميركي في استيراد أفكار اليسار الأوروبي، لناحية توسيع الدولة ورعايتها الاجتماعية وسلطاتها الأمنية بشكل يتعارض والمبدأ المؤسس للدولة الأميركية والوارد في إعلان الاستقلال: الحياة والحرية الفردية (liberty) والسعي للسعادة.
"التنوع والمساواة والشمول"
بسبب الحرية الفردية هذه، يعارض الأميركيون اعطاء بصماتهم للسلطات الأمنية، ويعارضون قيام الشرطة بنصب كاميرات مراقبة في الأماكن العامة، على غرار مدينة لندن، على سبيل المثال. كما تعارض غالبية الأميركيين أي تشريعات تقيّد حرية الرأي، التي يحميها التعديل الأول للدستور، أو حرية اقتناء أسلحة فردية، التي يحميها التعديل الثاني.
على أن نخبة الديمقراطيين دأبوا على نشر أفكار تعارض المبادئ المؤسسة للدولة الأميركية، واعتبروا أن هذه المبادئ المؤسسة هي أفكار كولونيالية أوروبية كرّسها رجال بيض ممن كانوا استعبدوا أفارقة، وعليه، فإن هذه الأفكار شريرة ولا بد من استبدالها بأفكار بديلة. أما الأفكار البديلة، فتقضي بالتعييب والاتهام بالعنصرية لكل من يرفض الهجرة غير الشرعية ويصّر على تطبيق قوانين الهجرة، أو من يرفض فرض حيادية الجندرة (أي اعتبار أن الناس ليسوا على ما ولدوا عليه كذكور أو أناث بل ما يختارونه)، وتعييب من يتمسك بالشكل التقليدي للعائلة المكونة من أب وأم وأولاد، وغيرها.
أما أكثر أفكار النخبة الأميركية تعارضا مع التقاليد الأميركية فهي مبادئ "التنوع والمساواة والشمول"، خصوصا في الوظيفة، وهي مبادئ تستبدل مفهوم الكفاءة في الجامعات والعمل والوظيفة بالهوية الجندرية والعرقية. وبسبب "التنوع والمساواة والشمول"، عندما مضى بايدن في تعيين قاض في المحكمة الفدرالية العليا، أعلن أنه سيعين إمرأة سوداء، حتى قبل أن يختار القاضية كتانجي بروان جاكسون إلى المنصب بسبب جندرها، أي امرأة، ولون بشرتها الداكنة. وإعلان بايدن قلل من شأن جاكسون، إذ بدلا من القول أنه اختارها لأعلى منصب في البلاد بسبب كفاءتها القانونية، أعلن أن سبب اختياره هو جندرها ولونها وسعيه لتنويع التركيبة الإثنية والجندرية بين القضاة التسعة.
وعلى نفس المنوال، تخلّت الجامعات الأميركية عن امتحانات الدخول لأنها اعتبرت أن هذه الامتحانات تقضي على المساواة إذ يمكن للميسورين الإنفاق على الدروس الخاصة لأولادهم، وهو ما يعطيهم حظوظا أكبر لدخول الجامعات المرموقة، فيما يتعذر ذلك على الأقل دخلا. لذا، لتحقيق التسوية بين الطلاب، نصّت مبادئ "التنوع والمساواة والشمول" على إلغاء الامتحانات، وهو ما طرح مشكلة: كيف يمكن إجازة العاملين من دون إخضاعهم لما يمتحن قدراتهم؟ كيف يمكن منح شهادة طبيب لطالب لا نعرف قدراته وماذا يعرفه أو لا يعرفه؟
كان أول ضحايا "التنوع والمساواة والشمول" الأقليات العرقية نفسها التي تعتمد الكفاءة لصعود السلم الوظيفي والاجتماعي، مثل المهاجرين من القارة الهندية ومن شرق آسيا، وهؤلاء غالبا من المتفوقين في المواد العلمية، ويتخصصون في وظائف علمية وطبية وتكنولوجية رفيعه بسبب ثقافة الاجتهاد في الدراسة والتفوق في الامتحانات. هكذا، أطاحت قوانين "التنوع والمساواة والشمول" بأقليات عرقية من المهاجرين وأدخلت من لا يتمتعون بالكفاءة إلى مراكز تشترط الكفاءة تحت طائلة تهديد حياة البشر، مثل تسليم طائرة لطيار غير كفوء أو حياة إنسان لطبيب لا يعرف ما الذي يفعله.
"الحلم الأميركي" في الولايات المتحدة، يمثّل "الحلم الأميركي" حجر الزاوية في ثقافة الناس وهويتهم. والحلم الأميركي هذا مبني على الاجتهاد في العمل، وعلى الربح والخسارة، على عكس "الحلم الأوروبي"، الذي يعلي من ثقافة حياة الرفاهية والنقاهة على العمل الجاد والمثابرة والتعب. نخبة الديمقراطيين سعت لتحويل "الحلم الأميركي" إلى "حياة أوروبية"، وهو ما يتطلب زيادة هائلة في الإنفاق الحكومي على برامج الرعاية الاجتماعية، وتقليص ميزانيات الأبحاث الدفاعية والجيش.
لم تعجب غالبية الأميركيين الأفكار الأوروبية التي استوردتها نخبة الحزب الديمقراطي وحاولت نشرها، بل فرضها، في عموم الولايات المتحدة، فالأميركيون يفخرون بخصوصيتهم وثقافتهم السياسية والاجتماعية، بل أنهم يتباهون بها ويعتقدونها الأفضل في العالم ويطلقون عليها اسم "الحلم الأميركي".
هكذا انفضت غالبية الأميركيين عن الحزب الديمقراطي واقترعت ضده، وكان أشهر الديمقراطيين ممن غادروا الحزب هو الملياردير الذي منح المرشحين الديمقراطيين باراك أوباما وهيلاري كلينتون وجو بايدن ملايين الدولارات من التبرعات، وانتقل ليصبح أحد أكبر مؤيدي وداعمي ترامب، واسمه إيلون ماسك، مالك شركة تيسلا للسيارات الكهربائية وموقع إكس للتواصل الاجتماعي.
ومثل ماسك، ترك الحزب الديمقراطي جزءا كبير من قاعدته الجماهيرية من غير البيض، فالأميركيين من أصول أميركية جنوبية، على سبيل المثال، اقترعت غالبيتهم لترامب، وهو ما أثار دهشة الديمقراطيين: كيف نطلب نحن فتح الحدود في وجه المهاجرين غير الشرعيين من أميركا الجنوبية ويطلب الأميركيون الجنوبيون إغلاقها ويقترعون لترامب؟
الإجابة هي أن نخبة الديمقراطيين لا تستمع حتى لقاعدتها، فالأميركيين من أصول أميركية جنوبية يفرّون من كارتيلات المخدرات وابتزازها إلى الأمان في أميركا. أما الحدود المفتوحة، فهي تسمح للكارتيلات بالوصول إليهم والإمعان في ابتزازهم وتهديدهم. لذلك، يفضّل هؤلاء المهاجرون حدودا مغلقة وهجرة شرعية، على عكس ما أصرّ عليه نخبة الديمقراطيين.
وعلى هذا المنوال قضايا كثيرة أظهرت انفصال نخبة الديمقراطيين عن قاعدتهم وعن غالبية الأميركيين، فسحق ترامب هاريس قبل حلول منتصف ليل واشنطن. والباقي، كما يقول المثال الأميركي، صار من التاريخ.
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد