شهدت متصرفيّةُ القدس إبّان العهد العثمانيّ صدورَ عددٍ من المطبوعات الصحافيّة نذكر منها: مجلّة «المورد» لجرجس الخوري المقدسي، مجلّة «النفائس العصريّة» لخليل بيدس، «جريدة فلسطين» لعيسى العيسى. أمّا في العام 1908 فقد أصدر الصحافيّ جرجي حبيب حنانيا في مدينة القدس، وهو المولود فيها، مطبوعة باللّغة العربيّة سمّاها «القدس» استمرّت حتّى العام 1914. هذه المطبوعة بسنواتها ما بين الصدور والإغلاق شكّلت مادّةً تحليليّة للباحث والمؤرِّخ الدكتور ماهر الشريف نتج عنها الكتاب الذي بين أيدينا «جريدة القدس وبواكير الحداثة في لواء أو متصرفيّة القدس» .
يتساءل الشريف في تقييمه لأداء الجريدة التحريريّة وكيفيّة تعاطيها مع أحداث تلك السنوات عمّا إذا كان حنانيا قد اقترب من الترويج للحداثة، وهل تُبيِّن محتويات «جريدة القدس» فعلاً أنّها كانت أداة لترويج أُسس المجتمع الحديث؟
في هذا السياق، أشير إلى العديد من المؤلّفات الموثّقة عن بدايات دخول المجتمع المدينيّ الفلسطيني في تجارب التحديث صدرت تباعاً، ومنها ما تخبرنا عنه الباحثة منار حسن في كتابها «المغيّبات: النساء والمُدن الفلسطينيّة حتّى سنة 1948»، الصادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، والذي تحكي فيه عن براعم التحضُّر التي بدأت بعد منتصف القرن 19 في فلسطين، والتي شملتِ القطاعات الثقافيّة والاجتماعيّة كافّة وتأسيس الجمعيّات، فضلاً عن دَور المرأة.
يورِد الشريف ملاحظات في تقييمه لأداء «جريدة القدس»، ومنها «أنّ شعار الجريدة شعار حداثيّ هو حريّة، مساواة، إخاء» (شعار الثورة الفرنسيّة)، وأنّ صاحبها كان مطّلعاً على أفكار أوروبا الحديثة، فعمل على المُناداة بتعميم المدارس الوطنيّة الحديثة، ونشْر الجرائد، وتأسيس الجمعيّات، إضافة إلى أهميّة تطوير القطاعات الإنتاجيّة، وهي الزراعة والصناعة والتجارة، واستخراج المعادن، فضلاً عن دعوته إلى تعليم المرأة وتوفير شروط العمل لها.
يتضمَّن الكتاب عشرة فصول استنبط الشريف من محتوياتها ما يخدم سرديّة التوعية بالتحديث وأساليب الحداثة، ومنها تركيز الجريدة على مُحارَبة الآفات الاجتماعيّة، وتأكيد أنّ العرب في فلسطين امتلكوا خصائص قوميّة وثقافيّة مميَّزة، وأنّ ارتباطهم بالأرض التي يعيشون فوقها لم يكُن واهياً، مع إشارته إلى «أنها كانت جريدة مُحايدة في التركيز على مخاطر الصهيونيّة» ونشْرِ التوعية الوطنيّة والهويّاتيّة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني الذي كان قد اكتسب هذا الوعي من خلال تواصله مع العرب «البيروتيّين» الذين دعوا إلى اللّامركزيّة الإداريّة خلال العهد العثماني وإلى الاعتراف باللّغة العربيّة لغةً رسميّة في ظلّ السلطنة العثمانيّة.
إسعاف النشاشيبي
في افتتاحيّة العدد الأوّل من سنة صدورها الثانيّة حثَّ حنانيا المجتمعَ نحو التحديث والتمدين والاقتباس عن الغرب، و»لكن ليس اقتباساً أعمى»، وإنّما «اكتساب القيَم الأساسيّة منه كالاتّحاد والعدل»، مع انتقاده للوجه «الاستعماري والحربي للغرب»، مُتّهماً «دول أوروبا بالتزاحم في سبيل الاستعمار» (ص19)، فكتب سنة 1912 محذّراً الغرب من الشرق لأنّ «نهضة اليابان والصين ويقظة تركيا وفارس بمثابة شعار للآسيويّين» .
عن «جريدة القدس والتعبير عن هويّة متعدّدة الأبعاد»
جمعتِ الجريدة ما بين ولاء مركزي إلى أمّة كبيرة متمثّلة بالأمّة العثمانيّة من جهة، وولاءات جزئيّة من جهة ثانية متمثّلة بالولاء إلى «شعب فلسطيني» أو إلى «قطر فلسطيني»، وكذلك بالولاء إلى العرب أو نادراً إلى أمّة عربيّة، مع ضعف التنبيه إلى مخاطر الحركة الصهيونيّة والاستيطان اليهودي. فانطوت مقالات حنانيا على «مواقف مناهضة للصهيونيّة ومؤيّدة لها في آنٍ واحد»، وموقفه كان أقرب إلى الحياد «حتّى في ما يتعلّق بأخبار مجيئهم وشرائهم أراضي في فلسطين»؛ لا بل نقلتِ الجريدة أخبار هذه الحركة على صعيد العالَم ومنها مؤتمر بال الصهيوني في العدد 256 السنة الثالثة لصدور الجريدة في 9 و22 أغسطس 1911، وجاء فيه: «إنّ هذا المؤتمر افتُتح في 9 أغسطس، وكان المؤتمر الصهيوني العالمي العاشر بحضور 1600 شخص بينهم 120 صحافيّاً، وقد أشار رئيس المنظّمة الصهيونيّة العالميّة آنذاك ديفيد وولفسون في خطابه الافتتاحي إلى تقدُّم الصهيونيّة في العالَم بأسره وإلى توطّدها النهائي، وأنّ أحوال الشعب اليهودي سيّئة في كلّ مكان ما خلا تركيا، فإنّ اليهود فيها يتمتّعون بالمساواة التامّة». ولكنّ بعض كتّاب الجريدة كان يُنبّه في مقالاته أو قصائده بصورة واضحة إلى مخاطر المشروع الصهيوني وعمليّات بيع الأراضي إلى اليهود على مستقبل فلسطين وصبغتها العربيّة، ومن هؤلاء الكتّاب الأديب المعروف إسعاف النشاشيبي .
ثمّة مُفارَقة لافتة هي أنّ حنانيا الدّاعي إلى التحديث في المجتمع العربي وجَّه نقده إلى أحد صاحبَيْ جريدة «المفيد» التي كانت تصدر في بيروت، وهو عبد الغني العريسي الذي كان من أنصار الدعوة للقوميّة العربيّة، والدعوة إلى اللّامركزيّة وإجراء إصلاحات.
وتعطينا الجريدة تصوُّراً عن متصرفيّة القدس أو لواء القدس؛ عن مُدنه وبلديّاته وحياة سكّانه الاقتصاديّة. وتَذكر «أنّ أغلبيّة سكّان هذا اللّواء كانوا من المسلمين، عدد قليل من المسيحيّين يتوزّعون على طوائف الروم الأرثوذكس، وهُم النسبة الأكبر، ثمّ اللّاتين والكاثوليك والأرمن والسريان والأقباط، وفي القدس والخليل بعض اليهود من السفرديم أي اليهود الشرقيّين»؛ وأنّ مشكلاتها قائمة في.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية