في ظل تعقيد المشهد الدولي وصعود تحديات جديدة، تظل أوكرانيا قضية محورية للإدارة الديمقراطية الأميركية حتى في أيامها الأخيرة. ومنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، حرصت إدارة جو بايدن على اتخاذ موقف واضح لدعم كييف، معتبرة أن دعم أوكرانيا لا يتعلق فقط بموازين القوى الإقليمية، بل هو اختبار لمدى التزام الولايات المتحدة بمبادئ الديمقراطية وحماية النظام الدولي القائم.
ومع حسم الانتخابات الأميركية، بدا جليًا أن هذا الدعم يشكل اختبارًا سياسيًا حساسًا لبايدن شخصيًا وحزبه، مما أضفى طابعًا استثنائيًا على قراره الأخير بالسماح باستخدام صواريخ بعيدة المدى ضد أهداف عسكرية داخل روسيا.
لكن هذا المشهد لا يمكن فصله عن التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. ففي خضم الصراع الأوكراني، تسعى دول المعسكر الشرقي، وعلى رأسها روسيا والصين، إلى الدفع نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب يُضعف الهيمنة الغربية، ويُظهر هذا السياق كيف أصبحت أوكرانيا نقطة اشتباك بين رؤيتين متضاربتين: نظام دولي تقوده الولايات المتحدة، وآخر تحاول دول المعسكر الشرقي تشكيله لموازنة النفوذ الغربي.
انعكاسات الصراع على الأمن الغذائي العالمي على أرض الواقع، تتداخل القضايا الإنسانية مع الأبعاد العسكرية والجيوسياسية للصراع. إحدى أبرز هذه القضايا هي تهديد روسيا لمنظومة غربية قائمة على حقوق الإنسان، خصوصا فيما يتعلق بمعاملة المعتقلين الأوكرانيين. حيث تشير التقارير الغربية إلى أن أكثر من 95% من أسرى الحرب الأوكرانيين تعرضوا للتعذيب وسوء المعاملة في السجون الروسية، وهو ما يصنف انتهاكاً لاتفاقيات جنيف.
وهذه الانتهاكات تستعمل بوضوح غربياً لتظهر أن المعسكر الشرقي يستخف بالقوانين الدولية عندما تتعارض مع أهدافه الإستراتيجية، وهو ما يجعل حقوق الإنسان نفسها ورقة ضغط سياسي تُستخدم ببساطة لتحقيق مكاسب دولية، وبالطبع للإدارة الديمقراطية دور في استغلال هذه الانتهاكات لدعم الرواية الغربية حول ضرورة الدفاع عن القيم الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان كون روسيا تمنع المنظمات الدولية من زيارة المعتقلين أو التحقيق في أوضاعهم، وأوكرانيا بالمقابل تسمح للجان الدولية بالاطلاع على أوضاع معتقليها وتطلع الهيئات المختصة على أحوالهم.
وبينما يتصاعد الصراع على الجبهة العسكرية والإنسانية، تتزايد تداعيات الحرب على الأمن الغذائي العالمي، ما يُبرز تأثير هذا الصراع على ميزان القوى العالمي مرة ثانية. إذ تُعد أوكرانيا واحدة من أكبر مُصدّري الحبوب في العالم، لكن الهجمات الروسية المتكررة على بنيتها التحتية الزراعية، واستيلاءها على الحبوب وبيعها في الأسواق العالمية، أثّرت سلبًا على إمدادات الغذاء الدولية، خصوصا للدول النامية في إفريقيا وآسيا.
هذه الأزمة لا تُظهر فقط كيف تُستخدم الموارد الإستراتيجية كأداة في الحروب، بل تعكس أيضًا الرؤية التي يحاول المعسكر الشرقي ترسيخها، وهي عالم تتحكم فيه المصالح القومية دون قيود النظام الدولي القائم. وعلى الرغم من مبادرات كييف مثل برنامج "الحبوب من أوكرانيا"، يبقى الوضع هشًا، مما يجعل دور الولايات المتحدة حاسمًا ليس فقط في تقديم الدعم لأوكرانيا، ولكن أيضًا في ضمان استقرار الأسواق العالمية كجزء من جهودها للحفاظ على النظام الدولي الحالي الذي تقوده.
"خطة النصر" الأوكرانية ورؤية المستقبل في مواجهة هذه التحديات، قدم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي "خطة النصر"، التي تُعتبر رؤية إستراتيجية لإنهاء الحرب وتحقيق الاستقرار. وتركز الخطة على تعزيز القدرات العسكرية، وإدماج أوكرانيا في المنظمات الدولية مثل الناتو ولو بدا الأمر بعيداً، وتأمين الدعم الاقتصادي لإعادة الإعمار.
هذه الخطة بحسب مراقبين لا تُعد رؤية أوكرانية فقط بل هي جزء من إستراتيجية أوسع للمعسكر الغربي لإثبات أن الديمقراطيات قادرة على مواجهة التحديات التي تفرضها أنظمة الكتلة الشرقية. وفي الوقت ذاته، تُعد الخطة تحديًا أوكرانيا مباشرًا لمحاولات المعسكر الشرقي إعادة تشكيل النظام الدولي بما يتوافق مع مصالحه.
مع قرار بايدن الأخير حول الأسلحة بعيدة المدى تعود القضية الأوكرانية لتظهر على أنها ليست مجرد صراع إقليمي، بل معركة كبرى حول شكل النظام العالمي في المستقبل. كما أن تعاطي الإدارة الأميركية معها سيحدد مستقبل الأمن والاستقرار العالمي لعقود قادمة، خصوصا مع المخاوف من أن يجد العالم نفسه في مواجهة سيناريوهات مرعبة، كالخيار النووي.
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد