منذ انخراطها في الحرب السورية لحماية النظام السوري من السقوط دخلت الاستراتيجية التي اتبعتها إيران في البلاد بعدة محطات كان أبرزها و"أخطرها"، حسب خبراء ومراقبين، تلك المتعلقة بعمليات "التغيير الديمغرافي" التي أحدثتها وشاركت بها مع ميليشياتها ووكلائها في عدة مدن وقرى وبلدات.
من بين تلك المدن تدمر التي تعرضت لضربة إسرائيلية كبيرة، الأسبوع الماضي، والقصير الواقعة بحمص في وسط البلاد والمحاذية للحدود مع لبنان، فضلا عن دير الزور المحافظة التي طالما تردد اسمها من منطلق ما فعلته وتفعله إيران هناك، إضافة إلى محيط مدينتي حلب ودمشق.
وتشير تقديرات تقريبية إلى أن عدد سكان تدمر بلغ في عام 2011 نحو 110 آلاف نسمة، لكن اليوم لم يتبق منهم سوى بعض العائلات "التي تعد على الأصابع"، كما يقول الشاب، أحمد المعمو، المقيم في إسطنبول، مضيفا لموقع "الحرة"، وهو من أهالي المدينة: "الفئة الأكبر التي تعيش في مدينتي الآن من ميليشيات إيران وعوائل العناصر والقادة".
قتل إثر الضربة الأخيرة على (عروس الصحراء) و"مدينة الملكة زنوبيا"، كما تعرف منذ عقود، عناصر من ميليشيا "فاطميون" و"زينبيون" ومن ميليشيات عراقية أخرى كـ"حركة النجباء"، وهؤلاء كانوا جلبوا عوائلهم إلى تدمر، بحسب الشاب السوري، وحولوا المدينة بالتدريج إلى "مستوطنة خاصة بهم"، على حد تعبيره.
لا تختلف حالة تدمر عن القصير التي سيطر عليها "حزب الله" اللبناني في عام 2013، ولم يسمح النظام السوري والأخير لسكانها بالعودة حتى الآن. ورغم وجود بعض "الاستثناءات" على صعيد عودة بعض العوائل يدفع أفرادها الآن ثمن "الصراع بين عدوين"، وفق تعبير الشاب عبد الله، الذي يقطن مع عائلته في شمال غرب سوريا.
يقيم حاليا في القصير ما بين 2000-5000 شخص، من أصل سكانها الـ60 ألفا بحسب الإحصاء الرسمي الصادر عن حكومة نظام الأسد في عام 2011.
ويقول عبد الله لموقع "الحرة": "تخيل أن مدينة كاملة ببضع سكان (في إشارة للقصير)، الغالبية ممن هم في الشتات يشاهدون ما يحصل فيها من بعيد وعلى شاشات التلفاز، الحسرة مضاعفة، لكنها أشد عندما يتعلق الأمر بحزب الله، وما فعله مع إيران هناك طوال سنوات".
وبعد أن انحرفت دفة الصراع بالتدريج لصالح نظام الأسد (عقب عام 2014) وثقت عدة تقارير محلية وغربية عمليات "تغيير ديمغرافي" قادتها إيران بهدوء، مع ميليشياتها ووكلائها في عدة مناطق سورية.
وفي حين شملت تلك العمليات إحلال سكان جدد بدل آخرين أصليين وصلت في مسارات أخرى إلى حد تقديم "الإغراءات" لتغيير الفطرة التي كان عليها السكان ونموا عليها، في سلوك "هادئ"، لوحظت أدواته في أكثر من ساحة ومناسبة.
ويجادل خبراء تحدث إليهم موقع "الحرة" بأن "التغيير الديمغرافي" لم يشمل كل المناطق التي سيطرت عليها إيران مع النظام السوري وأنه اقتصر على مواقع "استراتيجية" دون غيرها، لكن آخرين تحدثوا عن "استراتيجية مرسومة أسست وتؤسس لها إيران لبعيد"، كما الحالة التي اتبعتها سابقا في العراق.
وأمام ما تتعرض له إيران من ضغوط في المنطقة، على صعيد ملفاتها الخاصة والشكل العسكري والأمني العام لوكلائها في المنطقة وأبرزهم "حزب الله" تثار تساؤلات عن مآلات ذلك على ما بنته في سوريا بالتحديد، خلال السنوات الماضية.
"3 أشكال للتغيير الديمغرافي"
"التغيير الديمغرافي" يعني إحداث تغيير في بنية السكان، ووفقا للباحث في الشأن الإيراني، عبد الرحمن الحاج، فإن الممارس إيرانيا منه أخذ عدة أشكال في سوريا، أولها "التشييع وتغيير الهوية الدينية"، "بغرض خلق حاضنة موالية لإيران".
ويقول الحاج لموقع "الحرة" إن الشكل الأول الذي أحدثته إيران بدأ قبل اندلاع الثورة السورية في 2011، وحدثت فيه طفرة بعد هذا العام، واعتمد على الاستثمار في الفاقة والحاجة الاقتصادية للسكان، والحاجة للأمن والغذاء والتعليم (الحاجات الضرورية للبقاء)، وخاصة لدى الذين أنهكتهم سنوات الحرب.
كان أبرز أدوات إيران لتحقيق ذلك "الإغاثة" ونشاط المنظمات الإنسانية التابعة لها، والتي أسست لهذا الغرض، بالإضافة إلى المدارس الخاصة، والتطوع في الميليشيات الشيعية بهدف الحماية أو بسبب الإغراء المالي أو بسبب الحماية والخوف من التجنيد الإجباري.
ويوضح الباحث أن الشكل المتعلق بـ"التشييع وتغيير الهوية الدينية" استهدف عشرات الآلاف في أنحاء سوريا، وتركز بشكل رئيسي على الممرات الواصلة بين العراق وسوريا إلى لبنان وحلب ودرعا مرورا بحمص ودمشق، مشيرا إلى أنه "كان تغييرا بطيئا ومكلفا، لكنه أكثر استدامة من غيره".
في أعقاب تثبيت إيران أقدامها في سوريا أمنيا وعسكريا، عبر ميليشيات أجنبية ومحلية، أخذ التغيير الديمغرافي لإيران شكلا ثانيا في سوريا، وقام على وجه التحديد على عملية "تجريف السكان".
وحصل ما سبق في ريف دمشق ومحيط العاصمة، في مدن مثل داريا ودوما ومخيم اليرموك والقصير ومضايا والزبداني وغيرها، بحسب الحاج، ويضيف أن الهدف الإيراني وراء ذلك كان باتجاه "تقليص عدد السكان (غير المرغوب بهم والمقدرة أعدادهم بمئات الآلاف)".
استكمالا لعملية "التجريف" أخذت عمليات "التغيير" خلال السنوات الماضية شكلا جديدا وصل إلى نقطة إحلال سكان جدد، عبر توطينهم أو تجنيسهم أو شراء عقارات تتبع لإيران على نطاق واسع.
وقد جرت عمليات إحلال كثيرة في الوسط التجاري في مدينة دمشق وريفها وحمص وبشكل رئيسي في دير الزور وريفها الجنوبي، وفي أماكن سورية متفرقة أخرى، وفق الباحث السوري.
وفي حين يوضح الحاج أنه من غير المعروف حجم التغيير الذي تم بهذا الشكل، يشير إلى تغييرات معروفة وفق هذا النمط تمت في القصير وريفها والزبداني والقلمون ودمشق القديمة وجوبر وريف دمشق في ببيلا والقرى والبلدات في الغوطة الشرقية والغربية، خصوصا الواقعة على طريق المطار وفي البوكمال وريفها.
"سوريا حالة خاصة"
بناء على ما تظهره خرائط السيطرة في سوريا يتبين أن نفوذ إيران في البلاد يقتصر عسكريا وميليشياتيا على مناطق بعينها، مثل محافظة دير الزور ومحيط مدينة حلب ومحيط العاصمة السورية دمشق وفي حمص وسط البلاد.
ومع ذلك، لا تعكس الخرائط حجم النفوذ والتغلغل المرتبط بعمليات "التغيير الديمغرافي"، والتي تتشعب أدواتها في أكثر من ساحة ومجتمع، ودائما ما تبقى بعيدة عن دائرة الضوء.
ويعتقد الباحث في جامعة ماريلاند، المتابع لنشاطات وكلاء إيران في منطقة الشرق الأوسط، فيليب سميث، أن التغيير الديمغرافي الذي عملت عليه إيران في سوريا "كان عملية بطيئة الحركة، ومقتصرة حاليا على بعض المناطق الاستراتيجية الرئيسية".
ويشير في حديثه لموقع "الحرة" إلى القصير بريف محافظة حمص، المنطقة التي وقع فيها الهجوم الأول بقيادة "حزب الله" اللبناني، وتحولت فيما بعد وبالتدريج إلى بقعة جغرافية رئيسية لإعادة توطين الشيعة.
رغم أن هذه المنطقة (القصير) يوجد فيها مجتمع كبير مؤيد لحزب الله، إلا أن الأخير بدعم إيران نقل إليها آخرين، بما في ذلك اللبنانيين، بحسب الباحث في جامعة ماريلاند.
وانطبقت الحالة المذكورة أيضا على منطقة السيدة زينب وعلى محيط مدينة حلب.
كانت السيدة زينب موطنا لمجموعة واسعة من الشيعة الاثني عشرية، ولكن الآن تم استكمالها بالشيعة الأفغان الموالين لإيران، وبعضهم تابع لجماعة "فاطميون"، بحسب الباحث سميث.
وكذلك الأمر بالنسبة لمدينة حلب ومحيطها، التي أعيد فيها توطين العديد من عوائل وعناصر الميليشيات، المحلية والأجنبية، أبرزها "فاطميون".
يعتبر الباحث أن "سوريا تشكل حالة خاصة تستند إلى تجارب سابقة شوهدت في لبنان والعراق"، لكنها تختلف من ناحية "التخطيط والتنفيذ الاستراتيجي إلى حد كبير".
ومن جهتها ترى الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، إيفا كولوريوتي، أن "التغيير الديموغرافي الوحيد الذي نجحت إيران في تحقيقه جزئيا في سوريا كان من خلال العمليات العسكرية عبر نقل السكان وإخلاء المدن والمناطق الكبيرة من سكانها، ثم ملء هذه المناطق بعناصر ميليشياتهم وعائلاتهم".
منطقة القصير في ريف حمص الجنوبي، التي احتلها حزب الله في ربيع عام 2013، تم تفريغ سكانها وتمركز مقاتلوه هناك، والآن، بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان، يعيش عشرات الآلاف من الشيعة اللبنانيين هناك.
وتشير الباحثة في حديثها لموقع "الحرة" إلى أمثلة أخرى كذلك، مثل مناطق الزبداني ومضايا في ريف حلب.
"تسليح وترغيب"
في عام 2017 نشرت صحيفة "الغارديان" تقريرا نقلت فيه عن أحد كبار القادة اللبنانيين دون أن تسمه أن "إيران والنظام السوري لا يريدان وجود أي سُنّة.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من قناة الحرة