تعتمد نظرية داروين فى النشوء والتطور، والمعروفة بنظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعى، على عدة أركان أساسية، هى: الانتقاء الطبيعى، والتباين الوراثى، والوراثة، والتكيف، والانتقاء الجنسى، والصراع من أجل البقاء، والتغير التدريجى، والسلف المشترك. وإذا كان التوظيف المنطقى لتلك النظرية يكمن فى علم الطبيعة، فإن الجدل الذى أثارته على خلفية من الرفض العقائدى والأخلاقى قد أثّر سلبًا على قبول فرضياتها بين دارسى هذا الفرع من العلوم فى بلاد الشرق. أما فى العلوم الاجتماعية، فإن إسقاط الأركان الأساسية لنظرية النشوء والتطور على علم مثل الاقتصاد، يمكن أن يفسّر الكثير من الظواهر الاقتصادية، ويساعد على فهم المشكلة الاقتصادية واللاعبين الاقتصاديين بصورة أعمق، دون أدنى اشتباك مع العقائد والأديان.
كان ذلك عاملًا مؤثرًا فى نبوءة «روبرت فرانك»، كاتب العمود الاقتصادى فى نيويورك تايمز، ومؤلف الكتاب الأكثر مبيعًا «الاقتصادى الطبيعى»، بأن داروين سيحل محل آدم سميث كمؤسس فكرى لعلم الاقتصاد خلال القرن المقبل. فى رأى «فرانك» فإن فهم «داروين» للمنافسة يصف الواقع الاقتصادى بدقة أكبر كثيرًا من فهم «سميث». ولأننى أنحاز إلى فكر «فرانك» فى هذا الباب، حتى من قبل أن أسمع عن كتابه، فسوف أستخدم عددًا من الأركان الأساسية فى نظرية النشوء والتطور لتفسير بعض الظواهر والمسائل الاقتصادية التى نتعامل معها يوميًا، لكننا ما زلنا نقرأها بمنظور نظريات الاقتصاد المعروفة.
لنبدأ مثلًا بالانتقاء الطبيعى، الذى هو عبارة عن العملية التى من خلالها تتكيف الكائنات الحية مع بيئاتها، بحيث تكون الكائنات المالكة لسمات معززة لفرص بقائها وتكاثرها، أكثر قدرة على نقل هذه السمات إلى الأجيال القادمة. وبإسقاط هذا المفهوم على بعض الظواهر الاقتصادية، يمكن أن نفسّر التطوّر المؤسسى. فإذا كان الاقتصاديون معنيين بفهم ظاهرة تطوّر المؤسسات، وبخاصة الأسباب الكامنة خلف تطوّر بعض المؤسسات فى سنوات قليلة، بينما تستمر مؤسسات أخرى عدة قرون دون أى تغيير ملحوظ حتى تنقرض، فإن الانتقاء الطبيعى يمكن أن يساعدنا فى هذا الأمر. فالمؤسسات التى تستمر وتتطوّر تتمتع بخصائص ومميزات من المرونة والكفاءة والصلابة.. تسمح بتمريرها لمؤسسات وريثة، تضيف إلى تلك الخصائص سمات جديدة تجعلها أكثر قدرة على البقاء والتطور ومواكبة التغير التكنولوجى والبيئى. بالمثل يمكن توظيف مفهوم التباين الوراثى القائم على وجود اختلافات فى الصفات الوراثية داخل النوع الواحد، تنشأ عن طفرات جينية وإعادة تركيب جينى. بدون هذا التباين لن يكون هناك سمات مميزة يتم على أساسها الانتقاء الطبيعى.
والطفرات الجينية يمكن أن تفسّرها التحوّلات التقنية الكبرى والتى نتج عنها اختراع الحاسوب مثلًا، وتطوير شبكة الإنترنت، ثم مؤخرًا تطبيقات الذكاء الاصطناعى.. تلك الطفرات تصيب المؤسسات والكيانات المعدّة للتكيّف معها، بينما تلفظها كيانات أخرى يكون مصيرها الاضمحلال، تمامًا كما يحدث لشركات القطاع العام مقارنة بالشركات عابرة الجنسيات، وكما يحدث لمؤسسات دول العالم الثالث مقارنة بدول مجموعة السبع.
التكيّف المشار إليه هو بدوره ركيزة أساسية فى نظرية داروين الشهيرة، فهو العملية التى من خلالها تتطور الكائنات الحية لتصبح أكثر ملاءمة لبيئاتها. يمكن أن يكون التكيف فيزيائيًا، مثل تغير لون الفراء، أو سلوكيًا، مثل تطوير استراتيجيات جديدة للبحث عن الطعام. وهذا أيضًا يمكن أن يساعدنا على فهم سلوك التطور المؤسسى، وكذلك سلوك المستهلك والمنتج وسائر اللاعبين الاقتصاديين فى الأسواق. التكيّف يساعد على التعايش مع ظاهرة التضخم، فقط لمن يمتلك القدرة على تطوير قدراته ومواهبه التى يعرضها فى سوق العمل، من أجل مواكبة هذا التغير السريع فى تكاليف المعيشة. أما من عجز عن هذا التكيّف فإنه معرّض للفناء أو فى القليل مهدد فى قدرته على التكاثر والاستمرار، وهو يمرر تلك الصفات البائسة إلى ذريته، وصدق عز من قال: «وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولًا سديدًا».
أما عن الصراع من أجل البقاء، فإنه يشير إلى المنافسة.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من جريدة الشروق