عندما سجل الأديب إميل حبيبي وصيته في مدينة الناصرة التي أحبها، وأمضى فيها جُل حياته، طلب أن يُدفن في حيفا، وأن يُنقش على شاهد الضريح «باقٍ في حيفا». بهذه الوصية، كان كعادته يقرأ المستقبل، ويعلن بصوته الجهوري المجلجل: «حتى في مماتي لن أبرح حيفا». ولم تأتِ الصرخة من فراغ، بل يعبّر فيها عن قلق دفين عاش معه منذ النكبة الفلسطينية الأولى عام 1948، ولم يبرحه يوماً حتى لحظة وفاته في 1996، فهو ابن تلك النكبة.
وحيفا، التي احتلت في السنة الأخيرة العناوين، لما تساقط عليها من صواريخ أُطلقت من لبنان، كانت يومها أيضاً ثالث أكبر مدن فلسطين التاريخية بعدد السكان. في أيام الانتداب البريطاني، نما عدد سكان المدينة من 10447 نسمة عام 1916 إلى 150 ألف نسمة لحظة سقوطها بأيدي المنظمات اليهودية عام 1948، يتوزعون بين 70 ألفاً من العرب ونحو 80 ألفاً من اليهود. وتعود زيادة نسبة اليهود إلى العرب في تلك الفترة لقيام الوكالة اليهودية بتركيز هجرة يهود العالم إلى فلسطين في حيفا، طيلة 3 عقود سبقت تاريخ النكبة لأهميتها الاستراتيجية وموقعها.
الاحتلال الإسرائيلي للمدينة ترافق مع عملية ترحيل شنيعة تشبه عمليات الترحيل التي نشهدها هذه الأيام في غزة ولبنان. وقد أسفرت عن هجرة ما يزيد على 96 في المائة من العرب، ليصبع عدد سكانها 97 ألفاً غالبيتهم من اليهود.
وإميل حبيبي كان واحداً من 2500 عربي بقوا فيها بإصرار. بعضهم ألقوا بأجسادهم أمام عربات الترحيل، وصمدوا. كان شاباً في السابعة والعشرين من العمر. بحسب قرار تقسيم فلسطين، ضُمت حيفا للدولة اليهودية. وكان يُفترض أن تبقى مدينة مختلطة، يعيش فيها اليهود والعرب بسلام. ومع أنه كان من تلك الأقلية السياسية التي وافقت على قرار التقسيم، عصبة التحرر الوطني، فقد ذاق على جلده النكبة التي حلت بالفلسطينيين. فتمزقت عائلته أيدي سبأ، ما بين رام الله وبيروت والولايات المتحدة. ورغم كل شيء، خلص إلى أنه اختار الطريق السليم: «باقٍ في حيفا». ولم يغمض عيناً عن رؤية خطر المخططات الرامية إلى إفراغ حيفا وأخواتها من البلدات العربية من أهلها العرب الذين صاروا يُعْرفون بالمواطنين العرب في إسرائيل أو فلسطينيي 48.
قلنا إنه كان يقرأ المستقبل؟ أجل. فعلى مدار 48 عاماً من عمره، عاش السياسة الإسرائيلية بدمه ولحمه وذكائه الوقاد. اختار الانخراط في حزب يهودي عربي مشترك، يضم أناساً يؤمنون بالحياة المشتركة، ويعارضون المخططات الصهيونية، حزب «ماكي» الذي انقسم ليصبح «ركح» ثم «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» ثم ترك التنظيمات الحزبية وقيودها، وأعلن أنه أصبح حراً. حسب خصومه، تغير إميل حبيبي، وحاد عن الطريق، لكنه في الحقيقة كان يقرأ الواقع بعقلية جدلية لامعة، ويطور مفاهيمه وأدوات نضاله، وظل أميناً مخلصاً لمبادئه الوطنية. ومن خلال العين الثاقبة التي تميَّز بها، ظل قلقاً من أن يفقد حيفا.
لقد حرص على تعلم اللغة العبرية، ودرس وتعمق في قراءة السياسة الإسرائيلية العميقة. احتك بالسياسة والسياسيين الإسرائيليين، وخاض معارك طاحنة معهم، واحتك بالسياسة والسياسيين الفلسطينيين، وخاض معارك طاحنة معهم. كان يدرك أن غالبية القادة الإسرائيليين لم يتخلوا عن فكرة التخلص من العرب الباقين في إسرائيل، والذين قاربوا نسبة 19 في المائة من السكان، فيحاربهم. وكان يحارب الفلسطينيين والعرب الذين يقودون سياسات تساعد الإسرائيليين على تبرير سياستهم. وفي الوقت نفسه، أبقى الأمل حياً، بأن يأتي يوم يكتفي فيه البشر بأنهار الدم التي سالت ويفتحون صفحة جديدة في العلاقات، بشرط أن يبقى هو في حيفا في حياته وفي مماته، فالبقاء في حيفا هو الهم وهو القلق وهو العنوان.
ومن يحسن قراءة الواقع، اليوم، يقلق على حيفا وأخواتها أيضاً، الناصرة ويافا واللد والرملة وأم الفحم والطيبة ورهط. ومن يتابع تعليمات الناطق باللغة العربية بلسان الجيش الإسرائيلي، لسكان قطاع غزة وجنوب لبنان والضاحية والبقاع وبعلبك، لا يستطيع أن يبقى متفرجاً، بل ينتابه القلق على بيته وبلدته من تلك القيادة المنفلتة، التي لا تلجم مجانينها.
حيفا تهتز مؤخراً اهتزت حيفا كما لو أنها تتعرض لزلزال. الصواريخ الإيرانية قصفتها من طهران ومن غزة ومن لبنان، والصواريخ الإسرائيلية تصدت لها. بعضها أصاب وبعضها خاب، لكن الصائب والخائب منها هز الأرض والسماء؛ فالصاروخ الواحد الذي يدمَّر أو يدمِّر، ينشر مئات الشظايا الفتاكة القاتلة، ويُحدث دماراً، ويزرع الرعب في نفوس الكبار قبل الصغار، ويهز ضريح إميل حبيبي في «مقبرة كفر أسمير» جنوب المدينة. من ذلك البحر، الذي يشهد غروب الشمس الساحر، تنهال النيران الحارقة.
الشاعر توفيق زياد، رفيق درب إميل حبيبي كتب في قصيدته «أناديكم»، يقول: «ومأساتي التي أحيا نصيبي من مآسيكم». وهو نصيب صغير إذا ما قورن بنصيب غزة وبيروت، لكنه كبير إذا قيس بما حصل في النكبة الأولى قبل 76 سنة وبالنكبة الثانية المصنوعة طيلة السنة الأخيرة وما تخبئه للسنين الآتية. والعرب في إسرائيل يعيشون الآن ما بين النكبتين. وما أشبه اليوم بالأمس. فهناك شعور يتنامى بأن الحكومة الإسرائيلية تعد للعرب في إسرائيل نكبة أخرى، بعد الانتهاء من هذه الحرب. وهناك أساس لهذه المخاوف، ليس من التاريخ فحسب، بل من الحاضر أيضاً.
خلال ثلاثة أرباع القرن، كبر فلسطينيو 48، وتكاثروا، من مجموعة شتات تعيش بغياب قيادة تضم 154 ألفاً في سنة 1949، إلى مجتمع متكامل مليء بالقدرات والإنجازات قوامه 1.9 مليون نسمة اليوم، ويشكلون نسبة 19 في المائة من سكان إسرائيل. في البداية، كانت الحكومات الإسرائيلية محتارة فيما ستفعله معهم. هل تبقيهم مواطنين؟ هل تمنحهم الجنسية أم تبقيهم رعايا، مع حق إقامة أو حقوق مواطنة؟ أم تتخلص منهم في أول مناسبة أو أول حرب مقبلة؟ وبسبب هذه المعضلة، لم يسنوا قانون المواطنة إلا بعد سنتين من قيام الدولة. وفي البداية، لم يشمل القانون جميع السكان العرب، وتجاهل عرب النقب والمواطنين الذين رحلوا في عام 1948 ثم عادوا إلى الوطن بمختلف الطرق. وانطلقت مظاهرات في الناصرة وحيفا وعكا والطيبة تطالب بالحصول على الجنسية الإسرائيلية، لأنهم أدركوا أن هذه الجنسية هي عربون البقاء في الوطن. وفقط في سنة 1952 حصل جميع المواطنين العرب عليها، وتم عدُّهم مواطنين فعلاً.
لكن السلطات الإسرائيلية ظلت تنظر إليهم كأنهم مشبوهون، وكانت تخشى من مشاركتهم في الحروب العربية ضد إسرائيل. وفي فترة العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، نفذت قوات عسكرية مذبحة كفر قاسم، التي قُتل فيها 49 شخصاً، بينهم نساء وشيوخ، كمحاولة لدب الفزع فيهم حتى يرحلوا. وفشلت المحاولة، لأن الناس تمسكوا ببيوتهم وأراضيهم.
عاشوا أول 18 عاماً في ظل حكم عسكري بغيض تَحَكَّمَ في كل جوانب حياتهم. لم يكن بمقدور أي منهم أن يسافر من بلدة إلى أخرى، للعمل أو التعليم أو العلاج الطبي، إلا بتصريح خاص من الحاكم العسكري اليهودي المعيّن في كل منطقة، والحصول على تصريح يتم عبر مسار إذلال وضغوط سياسية وابتزاز. وحتى عندما أُلْغِيَ الحكم العسكري في سنة 1966، استبدلته المخابرات. وعشية حرب 1967، أقدمت هذه المخابرات على اعتقال أكثر من 500 شخص من القادة السياسيين الوطنيين، اعتقالاً احترازياً، خوفاً من أن يفتحوا جبهة ضد إسرائيل، وهي تحارب شعبهم الفلسطيني وأمتهم العربية.
وفقط عندما احتلت إسرائيل سيناء المصرية والجولان السوري والضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، في غضون 6 أيام خلال تلك الحرب، خففت السلطات الإسرائيلية القمع والاضطهاد ضد المواطنين العرب، فقد انشغلت في تثبيت الاحتلال لبقية الأراضي وسكانها. وخلال سنوات طويلة منعت القوى الوطنية العربية في إسرائيل من دخول المناطق المحتلة حديثاً، بأمر من الحاكم العسكري، حتى لا يؤثروا على سكانها، ويهبوا ضد الاحتلال، لكن هذا الفصل فشل. وفي نهاية المطاف انخرط الفلسطينيون على طرفي الحدود، ومعهم السوريون الذين بقوا في أراضيهم في الجولان، وتزاوجوا وتلاحموا بوصفهم أبناء شعب واحد، رغم اختلاف ظروف كل منهم.
مسيرة الازدهار لقد مارست السلطات الإسرائيلية سياسة تمييز عنصري تجاه المواطنين العرب على مدار 76 سنة وحتى اليوم، ولم تفِ بتعهداتها في «وثيقة الاستقلال» التي نصت على المساواة للجميع. وحرصت في البداية على تدمير أكثر من 400 قرية عن بكرة أبيها، تماماً كما تفعل اليوم في غزة وجنوب لبنان والضاحية، ومنعت عودة السكان إليها. واليوم يوجد أكثر من 300 ألف عربي لاجئ في الوطن لا يستطيع السكنى في بلدته. وصادرت أكثر من 80 في المائة من أراضيهم، واستخدمتها في البداية أغراضاً عسكرية، ثم أقامت بلدات يهودية تحيط بقراهم ومدنهم من كل جانب. وتدخلت في أماكن عملهم وفي اختيار المعلمين في مدارسهم، وفرضت نظام ملاحقة عليهم في جميع مجالات الحياة. وحطمت فروع الزراعة في بلداتهم، وحولتهم إلى العمل في المدن اليهودية، وفرضت قيوداً على التعليم الجامعي لديهم.
ولكن كل هذه القيود لم تكسر شوكتهم، بل كانت في كثير من الأحيان محفزاً لتحقيق الإنجازات. وخاضوا نضالات كبيرة وقوية لأجل الحق في العمل، ثم لأجل تدريس اللغة العربية في مدارسهم. وشق المواطنون العرب في إسرائيل طريقهم، وحققوا إنجازات هائلة في جميع مجالات الحياة. اليوم يشكل العرب 19 في المائة من سكان الدولة، لكنهم يشكلون نسبة 35 في المائة من الأطباء في المستشفيات، وهناك 4 مستشفيات يهودية في إسرائيل يديرها أطباء عرب ونحو 30 دائرة كبرى في مستشفيات يهودية يديرها أطباء عرب، إضافة إلى 4 مستشفيات عربية في الناصرة. ويصل العرب إلى نسبة 45 في المائة من الصيادلة و30 في المائة من المحامين و35 في المائة من مقاولي البناء و20 في المائة من المهندسين. ويشكل العرب نحو 20 في المائة من الطلبة في الجامعات والكليات الأكاديمية في إسرائيل، وهذا إضافة إلى نحو 30 ألف طالب يدرسون في جامعات فلسطينية وأردنية، وكذلك في أوروبا والولايات المتحدة وروسيا... وغيرها.
وبحسب دراسة أُجريت في معهد «طاوب» صار معدل الحصول على شهادة الثانوية لدى النساء العربيات الإسرائيليات أعلى من معدل النساء اليهوديات، منذ سنة 2018. وكثير من النساء العربيات في إسرائيل يخترن التخصصات العلمية والهندسية في المدرسة الثانوية التي ترتبط باحتمال ارتفاع الأجور في المستقبل. وتظهر الدراسة أن أكثر من 70 في المائة من النساء العربيات الإسرائيليات اللواتي يتأهلن للحصول على شهادة الثانوية العامة يدرسن هذه التخصصات، مقابل 39 في المائة فقط من النساء اليهوديات. كما ارتفع معدل التحاق النساء العربيات في مؤسسات التعليم العالي بشكل ملحوظ بين عامي 2008 و2013، وقد زادت على نسبة 50 في المائة.
وهناك عالم عربي في الهندسة الكيميائية، البروفيسور حسام حايك، الذي سُجِّلت باسمه 35 اختراعاً عالمياً، أشهرها الأنف الإلكتروني، الذي يشم مرض السرطان. وهو الذي انتُخب شخصية العام في إسرائيل، ويقود في نطاق عمله في معهد الهندسة التطبيقية التخنيون في حيفا، فريق أبحاث مكوناً من 46 باحثاً وباحثة من حملة الدكتوراه، وهو يعد من أكبر وأقوى فرق الأبحاث في المعاهد العلمية المحلية والعالمية. وهناك العالم الاقتصادي العربي، البروفيسور سامر حاج يحيى، الذي شغل منصب رئيس مجلس إدارة أكبر بنك في إسرائيل «بنك لئومي»، وكان أحد.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الشرق الأوسط