كانت الشخصيات السياسية التركية أول من زارت دمشق بعد سقوط رئيس النظام السوري بشار الأسد، كذلك توالت التصريحات التركية التي تتحدث عن مساهمات تركية لمساعدة سوريا في المرحلة الجديدة المقبلة عليها البلاد.
في هذه الأثناء، قال وزير النقل والبنية التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو، إن بلاده تعتزم بدء مفاوضات مع سوريا لترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط.
ونقلت وكالة "بلومبرغ" للأنباء عن أورال أوغلو قوله للصحفيين في العاصمة أنقرة إن مثل هذه الصفقة ستسمح للبلدين "بزيادة منطقة نفوذهما" في استكشاف الطاقة.
يمثل البحر الأبيض المتوسط منطقة حيوية لأنقرة من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية، وذلك كمصدر رئيسي للموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز، بالإضافة إلى دوره الإستراتيجي في تعزيز النفوذ التركي في المنطقة.
ترسيم الحدود السورية التركية
ولمناقشة هذا الملف بالإضافة إلى غيره من الأمور يعتزم 5 وزراء أتراك زيارة دمشق لإجراء محادثات مع نظرائهم الذين سيتم تعيينهم قريباً في حكومة دمشق الجديدة، وفقاً لما أفادت صحيفة "حريت" التركية، من ضمنهم وزير النقل.
يرى محللون أن التحركات التركية مع سوريا هو تكرار لسيناريو ليبيا، حيث تسعى لاستغلال الأزمة السياسية وسقوط النظام للتوسع في البحر المتوسط من خلال اتفاقيات جديدة.
وفي هذا الصدد، يقول المحلل السياسي المتخصص في الشأن التركي محمود علوش في حديث إلى منصة "المشهد" إنّ "أولوية تركيا في هذه المرحلة هي مساعدة سوريا لعبور هذه المرحلة الانتقالية وإرساء حالة من الاستقرار والسلام طويل الأمد في البلاد".
ويضيف علوش أن "تركيا تطمح إلى إبرام مثل هذه الاتفاقية، لكن في ظل الوضع الراهن لا يمكن ذلك. عندما تنجح سوريا في عبور هذه المرحلة الانتقالية، سيكون هذا الخيار مطروحًا على الطاولة. تركيا تنظر إلى هذا التحول في سوريا على أنه يجلب لها مزايا جيوسياسية كبيرة".
دعمت تركيا المعارضة السورية التي نجحت في الإطاحة بالرئيس بشار الأسد هذا الشهر، مما أسفر عن إنهاء حرب أهلية استمرت 13 عامًا. وقد أقامت أنقرة روابط وثيقة مع الحكومة المؤقتة الجديدة، حيث شمل ذلك اجتماع رئيس جهاز المخابرات التركي ووزير الخارجية مع القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع. وفي الأسبوع الماضي، صرّح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بأنّ تركيا ستسعى لتعزيز العلاقات مع سوريا في مجالات عدة، مثل التجارة والطاقة والدفاع.
بدوره يشرح المحلل السياسي السوري د.محمد نادر العمري أن "أبرز ما ستستفيده تركيا في حال توجهها نحو هذا الخيار هو السيطرة على الأراضي المتنازع عليها بين سوريا وتركيا منذ ثلاثينيات القرن الماضي. سوريا تعتبر هذه الأراضي جزءًا من أراضيها، بينما تعتبرها أنقرة جزءًا من أراضيها أيضًا. قسم من هذه الأراضي يطل على المياه المتوسطية، مما يعزز أهمية هذا النزاع".
ويشير العمري في تصريح لـ"المشهد" إلى أن"تركيا تسعى للاستفادة من الغاز في البحر المتوسط، كما تسعى لإثبات وجودها في هذا المجال من خلال استثمار الغاز التركي في المتوسط".
تعتبر تركيا البحر المتوسط مجالًا حيويًا لتعزيز قوتها الجيوسياسية والاقتصادية، ومع تصاعد النزاع حول الحدود البحرية في المنطقة، يبقى البحر المتوسط مسرحًا للتوترات والتحديات بين تركيا والدول المجاورة، مثل اليونان وقبرص.
نشر معهد "تشاتام هاوس" البريطاني، في 17 ديسمبر الجاري، تحليلاً تحت عنوان "طموحات تركيا في مجال الطاقة تكتسب زخماً جديداً بعد سقوط الأسد"، ولفت البحث إلى أن أنقرة بإمكانها توظيف المعارضين السوريين للتفاوض على اتفاقيات دفاع مواتية مع الحكومة الجديدة في دمشق، على غرار اتفاقيات مماثلة عقدتها أنقرة مع دول أخرى كالصومال وليبيا. ومن شأن مثل هذه الترتيبات أن توسع بشكل كبير العمق الإستراتيجي لتركيا بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
مواضيع ذات صلة اليونان تحذر بدورها، ترفض اليونان بشكل قاطع أيّ محاولات من تركيا لتوسيع حدودها البحرية بطريقة تهدد حقوقها الاقتصادية في المناطق البحرية، وخصوصًا مناطق الحقول النفطية والغازية. كما أن هناك نزاعًا مستمرًا بين البلدين حول تحديد مناطق الصلاحية البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة.
وفي إطار هذا الموقف الرافض أعلنت اليونان وقبرص في بيانين منفصلين أنّ الاتفاق المحتمل بين تركيا وسوريا لترسيم حدود مناطقهما الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط، سيكون "غير قانوني" وينتهك حقوق قبرص السيادية.
وصفت مصادر في وزارة الدفاع الوطني اليونانية احتمال إبرام اتفاق بين تركيا وسوريا بأنه "خطوة غير ودية" من شأنها أن تؤثر على العلاقات اليونانية التركية.
ويؤكد العمري أن "الموضوع يحتاج إلى اتفاقيات وتصديق من مجلس الشعب أو الجهات المعنية وفقًا للدستور، وبالتالي سيُؤجل حتى تشكيل الحكومة وعودة تفعيل المؤسسات المختلفة. أي نحن نتحدث عن مرحلة ما بعد الحكومة الانتقالية. لكن يمكن البدء في إيجاد تفاهمات دون التوجه نحو توقيع اتفاقات خلال الحكومة الانتقالية".
ويعتقد علوش أن "مثل هذه الاتفاقية ستزيد من قوة موقف تركيا التفاوضي في المنافسة الجيوسياسية مع اليونان وقبرص الجنوبية في معادلة شرق البحر المتوسط".
الجدير بالذكر أن اليونان تؤيد موقف الاتحاد الأوروبي في الضغط على تركيا لاحترام قوانين الأمم المتحدة المتعلقة بالقانون البحري الدولي، وبالتحديد اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، التي تنظم مسائل ترسيم الحدود البحرية بين الدول.
تكرار السيناريو الليبي
الخطوات التي تقوم فيها تركيا اليوم حول عزمها ترسيم الحدود البحرية بشكل عام يشبه الاتفاق الذي تم في 2019 بين حكومة الوفاق الوطني الليبية، التي كانت معترف بها دوليًا آنذاك، وتركيا. ينص هذا الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في البحر الأبيض المتوسط، ويحدد مناطق الصلاحية البحرية الخاصة بكل منهما.
وحينها أيضا، أثار الاتفاق قلق اليونان وقبرص اللتان اعتبرتا أنه يتجاهل حقوقهما في مناطق بحرية غنية بالموارد الطبيعية، مثل الحقول النفطية والغازية في شرق البحر الأبيض المتوسط، فيما تعترض بعض الدول على طريقة تحديد الحدود البحرية في الاتفاق، معتبرةً أنه يفرط في منح تركيا مناطق بحرية بالقرب من الجزر اليونانية، مثل جزيرة كريت، والتي يعتقد أنها تقع ضمن نطاق المناطق الاقتصادية الخالصة لليونان.
ويرى علوش أنه "لا يمكن إسقاط الوضع في ليبيا على سوريا، فهناك اختلافات بين الحالتين. لكن بالتأكيد، هذا الدور الكبير أو هذه المزايا التي يجلبها التحول في سوريا بالنسبة لتركيا تعتبر تهديدًا لقوى أخرى فاعلة في المنطقة. وهذه القوى ترى في الدور التركي تهديدًا لمصالحها".
(المشهد)
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد