ليس بالضرورة أن يكون "صاحب الخط الجميل" ذا خط جميل فعلاً، يكفي أن تكون لديه أذنان مصغيتان، ونفسية مخبر، ومظهر رواد المقاهي المثقفين. فهذا التعبير اصطلح أن يكون صفة المخبرين قبل عصر التسجيل والتصوير والتنصت. كان الثوار أو المعارضون ينبّهون بعضهم البعض إلى أن فلاناً "خطه جميل"، كأنها لغة خاصة أو شيفرة يدارون بها أقوالهم أو تصرفاتهم، من دون لفت نظر لما يحضّرون له أمام عيون وآذان المخبر.
درج هذا المصطلح في سوريا بعدما حوّلها عبد الحميد السراج الذي أدار الاستخبارات العسكرية في منتصف خمسينيات القرن الماضي إلى دولة بوليسية، فتحت سجونها على مصراعيها، واشتهر سجن المزة الذي تحول إلى مشرحة للأحياء. وصولاً إلى حكم حافظ الأسد حين كانت المخابرات توظّف كتاب التقارير ليدونوا ما يقتنصونه عن حركة المثقفين والمعارضين لملاحقتهم وسجنهم ومعاقبتهم.
"كعك... كعك"
مع الوقت أصبح تعبير "بائع الكعك" في لبنان يعني المخبر التابع للمخابرات السورية بعد انتشار عدد كبير من بائعي الكعك الذين يُتوقع ألا يثيروا الريبة، فينقلون نبض الشارع وأحاديثه إلى أولي الأمر. فبعدما كان تعبير "للجدران آذان" معروفاً في سوريا ويحث على الصمت المطبق والشك بأي شخص قد ينقل ما يُقال، حتى الجدران، جعل بائعو الكعك في لبنان وبائعو البالونات في سوريا للهواء الطلق آذاناً. وأشيع حينها أن أفراد وضباط المخابرات يتنكرون بمهن بسيطة لجمع المعلومات.
بلطجة اللغة
تولد في كنف الأنظمة الاستبدادية ودول الاحتلال مصطلحات تعكس واقع القمع والتسلط، وتصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية للشعوب. هذه الكلمات ليست مجرد ألفاظ، بل هي شواهد على حقب مظلمة وتجارب مؤلمة، تطوي في طياتها معاناة ولدت من رحمها شيفرة خاصة قد تقوم أحياناً بدور الحذر والتنبيه والحماية.
ويأتي تكريس أي مصطلح في اللغة بعد اتفاق مجموعة على تسمية شيء ما باسم جديد يُنقل من معناه الأصلي والفعلي، ليصبح رمزاً لغوياً محدداً للتعبير عن مفهوم خاص.
في التاريخ، نجد مثلاً مصطلح "الخوارج" الذي ظهر للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي خلال معركة صفين في عام 657، بعدما وافق الإمام علي بن أبي طالب بالتحكيم لحل النزاع مع معاوية بن أبي سفيان، فانشق عن الأول مجموعة من جيشه معتبرين أن قبول التحكيم "خيانة"، وأصبح هؤلاء يُعرفون لاحقاً بالخوارج.
تطور استخدام مصطلح "الخوارج" وتحول إلى مفهوم أوسع مع مرور الوقت، وأصبح المصطلح يستخدم للإشارة إلى كل جماعة تعلن الخروج عن طاعة الحاكم أو التمرد الفكري أو السياسي بخاصة في الجماعات والأحزاب، من دون أي صلة بالخوارج الأوائل، إنما تشبيهاً فيه نكهة التهكم والشتيمة.
كما استخدمه رئيس "حركة أمل" اللبنانية، نبيه بري، قبل أن يتسلم رئاسة مجلس النواب، أثناء حربه مع "حزب الله" في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي. حين أطلق على عناصر "حزب الله" لقب "الخوارج" قائلاً "خرجوا من رحمنا وسيعودون إليه. في إشارة إلى الذين كانوا مسؤولين وأعضاء في "حركة أمل" وانضموا إلى "حزب الله"، ومنهم الأمين العام السابق حسن نصرالله.
مصطلح آخر عرف من خلال الدين الإسلامي وهو "المنافق"، لا يملك جذراً لغوياً، إنما فُسر على أنه الذي يُضمر الكفر ويظهر الإيمان، حتى أن الآية رقم 145 من سورة النساء تقول "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار". وقد أطلق الإعلام الإيراني الرسمي على جماعة "مجاهدي خلق"، و"خلق" تعني الشعب، لقب "منافقي خلق" بعد استلام الثورة الإيرانية الحكم، في مسعى لتكفيرهم وإظهارهم إنهم يضمرون الكفر والتخريب. ولكن مصطلح منافق لم يعد يرتبط بالإيمان الديني أو عدمه، بل بكل مَن يضمر عكس ما يظهر من نوايا.
ويشهد الفن الشعبي تعابير توصّف الشخصيات بحسب مهامها التي كانت تقوم بها. ولطالما سمعنا عبارة "العواينية" في مسلسلات البيئة الشامية القديمة. وهو مصطلح ارتبط بفترة الانتداب الفرنسي على سوريا، وأطلقه السوريون على مخبرين من الشعب تعاونوا مع السلطات الفرنسية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20. ضد أبناء شعبهم، فيكونون بمثابة العيون المسلطة لمراقبة نبض الشارع.
عاد هذا المصطلح إلى الظهور أيضاً مع بدء الأزمة السورية في عام 2011، وأصبح معارضو النظام يستخدمونه لوصف أفراد المخابرات السرية الذين نشطوا في ملاحقة المحتجين والتبليغ عنهم للنظام. وما أن يكشفوهم حتى يطلقون عليهم لقب "العواينية" ويُكتب أحياناً على بيوتهم وسياراتهم.
كل هذا يظهر أن اللغة رسميةً كانت أم محلية أو شعبية، ترفق في قاموسها تعابير مستقاة من الحياة اليومية، يكون بعضها متعارفاً عليه وبعضها ضيفاً تستقبله اللغة في رحاب قاموسها وتشكله بما يتلاءم والمزاج العام للشعوب.
"الشبيحة" معنى لا يشبه الجذر
مصطلحات أخرى ترسخت لدى المواطن العربي، وكان للأنظمة العربية وحكامها ومسؤوليها الدور الأكبر في توليدها أو استخدامها، إما من الأنظمة ذاتها أو من معارضيها. ولعل أبرزها مصطلح "شبّيحة" الذي استُخدم في سوريا (ويُفهم القصد منه في لبنان) ويوازيه تقريباً في مصر مصطلح "البلطجية". وكلاهما مرتبط بدائرة المقربين من النظام أو المحسوبين على النظام. وهم القادرون على التحكّم والتسلط والاستبداد بحكم السلطة المعطاة لهم بغير وجه حق، سوى أنهم أتباع مخلصون للنظام، يستغلون ميزتهم أسوأ استغلال بخاصة أنه يتاح لهم الإفلات من العقاب.
وظهر مصطلح "الشبيح" في سوريا، للتدليل إلى مجموعات غير رسمية تعمل لمصلحة النظام، تقوم بأعمال قمع وترهيب ضد المعارضين. وهو بعكس "العوايني" أو المخبر السري، كونه يجاهر بدعم السلطة له، ويفخر بأنه من أزلامها. ولكن الأصل اللغوي لمفردة "الشبيحة" غير مؤكد. ويُعتقد أنها قد تكون مشتقة من كلمة "شبح"، في إشارة إلى ظهور هؤلاء "الشبيحة" المفاجئ والمخيف. وقد ترسخ هذا المصطلح في الوعي الجمعي كرمز للقمع والعنف الممنهج. وأصبح فعل "التشبيح" يعني "السلبطة" أي أخذ ما لا يحق لهم عن طريق استخدام السلطة الجائرة بدعم من النظام، حتى بات يرافق "الشبيح" مصطلحاً آخر وهو "المدعوم".
البلطجي تبدّل معناه
أما مصطلح "البلطجية" فيستخدم للإشارة إلى مجموعات أو أفراد يمارسون العنف والترهيب، لأغراض سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ويحمل أيضاً دلالات سلبية.
وكلمة "بلطجي" مشتقة من الكلمة التركية "Balta ı"، أي حامل الفأس. واستخدمت تاريخياً في الدولة العثمانية للإشارة إلى الجنود الذين كانوا يحملون الفؤوس ويستخدمونها في الحروب أو في شق الطرق والجسور من دون أن تحمل دلالة سلبية. ولكن عاد المصطلح وأخذ دلالته السلبية مع انتشار مجموعات تمارس أعمال التخريب والاعتداء مقابل المال أو لأغراض سياسية. ويُعتقد أن حاملي الفؤوس الذين لم يستخدموها في العمل، بقيت معهم فاستخدموها لترهيب الناس كونها قد تكون سلاحاً وإن بسيطاً في تلك المرحلة.
وأصبح المصطلح شائعاً خلال ثورات الربيع العربي، وخصوصاً في مصر، للإشارة إلى الأفراد المدعومين من النظام الحاكم أو جهات معينة كانت تستخدم لترهيب المتظاهرين أو إفساد الاحتجاجات من خلال العنف والتخريب.
واستخدم النائب اللبناني جبران باسيل منذ أربع سنوات تقريباً، في فيديو مسرب، كلمة "البلطجي" لتوصيف رئيس مجلس النواب نبيه بري ما أثار موجة من الغضب والاحتجاجات بين أنصار بري.
واستُخدم مصطلح "البلطجية" أيضاً لتوصيف عناصر.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية