يَطرح بعضُ علماء اللّغة قضيّةَ مستقبل اللّغات في زمن العولمة، التي تُهدِّد التنوُّعَ اللّغويّ لمصلحة لغة متفوِّقة تستند إلى حضورٍ فاعلٍ في مجال العلوم والتكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة. ونتيجةً ذلك، ونظرا لأهميّة اللّغة العربيّة في تكوين الثقافة والهويّة بمُجتمعاتنا، عمدت بعضُ الحكومات والمؤسّسات الثقافيّة إلى إطلاق المُبادرات التي تُسهِم في تعزيز اللّغة العربيّة بالتعليم، وفي التشجيع على البحث العلميّ بلغة الضادّ.
والواقع أنّ اللّغة العربيّة تَحمل في حدِّ ذاتها عناصر ديمومتها وقدرتها على مواكبة العصر، فهي لغة القرآن الكريم، ولغة الإنتاج الأدبي والفكري للغالبيّة العظمى من الكتّاب العرب، بمَن فيهم الشباب. ولعلّ الموضوع الذي أتناوله في هذه العجالة يدلّ على أنّ اللّغة العربيّة لا تزال تُمارِس سِحرَها على الجيل الصاعد، بل إنّها قادرة على الإسهام في التنمية.
ترميم قوارب
كتاب «حكايا لبنانية في الأزمة» هو مجموعة قصصيّة تضمّ 15 قصّة قصيرة أَسهَم في كتابتها 15 شابا وفتاة، من طلّاب جامعيّين أو خرّيجين تنوَّعت اختصاصاتهم، بعضهم مُقيمون، وبعضهم في المَهاجر، اختاروا أن يُعبّروا عن مُعاناتهم باللّغة العربيّة أو اللّغة الفرنسيّة أو اللّغة الإنجليزيّة، مما يُبرهن مرّة جديدة على أنّ التنوُّع اللّغوي ظاهرة إيجابيّة، وأنّ اللّغات تتكامل ولا تتنافس، وأنّ العلاقة بينها ليست بالضرورة إلغائيّة إقصائيّة.
وُلِد الكتاب نتيجة لقاءٍ «فيسبوكيّ» بين صبيّتَيْن، إحداهما إعلاميّة مستقلّة شابّة تقيم في لبنان، والثانية تعيش في الولايات المتّحدة، حيث حصلت على شهادة دكتوراه في الكيمياء، جَمَعُهما وعيٌ ثاقِب للمشكلات التي يُعانيها مجتمعُنا اللّبناني، وليس أقلّها المشكلة الاقتصاديّة، فاتّفقَتا على إطلاق مُبادَرةٍ عمليّة تُسهمان من خلالها، وبالتعاون مع مجموعة من الكتّاب الشباب، وعلى طريقتهم، في المساعدة في جهود التنمية، حيث إنّ مبيعات الكِتاب ستعود لمصلحة ترميم قوارب صيّادي السمك في مدينة الميناء وإصلاحها. قَبل زمنِ الحَجْر
قراءةَ النصوصِ الخمسةِ المؤلَّفةِ باللّغة العربيّة في ضوءِ النظريّات الأدبيّة تَكشف عن استجابتها للمعايير والشروط اللّازمة لكتابة قصّة قصيرة ناجحة، علما بأنّ هذا النَّوع من الفنون الأدبيّة هو أصعب من كتابة الرواية، لأنّه يقتضي التكثيف والاقتضاب، والمُحافَظة على التوتُّر الدرامي، وبخاصّة على عنصر المفاجأة.
في قصّة «النّافذة» تمكَّنت الكاتبةُ من إصابة عصافير عدّة بحَجَرٍ واحد: الجائحة، العنف، الحبّ، الموت. فقد نَجحتْ من خلال رصْد ما يجول في خاطر الشخصيّة الرئيسة المُحتجَزة في غرفةٍ بمستشفىً باريسيّ، بعدما أُصيبت بفيروس كورونا وهي حامل في الشهر الثامن، أن ترسمَ مشهدَ أزماتٍ مُتعدّدة منذ ثمانينيّات القرن الماضي في لبنان، وما ارتبطَ بها من أحداثِ عنفٍ وتهجير، مرورا بالأزمة السوريّة، وما رافقها من حركاتِ نزوح، إلى انعدام الأمن وأعمال الخَطف، وصولا إلى حركة السترات الصفر في فرنسا. كأنّ الرسالةَ التي أرادت إيصالها هي أنّ ما نعيشه في المُجتمعات العربيّة لا يُشكِّل استثناءً، بل إنَّ العالَمَ من حولنا بات مأزوما على تنوُّع المشكلات. بِنية الحبكة مركّبة، وتتميَّز بمتانةٍ عالية، إذ إنّها لا تتطوَّر في مَسارٍ خطّيّ، بل وفقَ خطٍّ مُتعرِّجٍ، بحيث يَنفتحُ السردُ على أحداثٍ جَرَتْ في أزمنةٍ مختلفة (ثمانينيّات القرن الماضي في لبنان، سنوات الحرب السوريّة منذ العام 2011، أحداث الشغب والتمرُّد في باريس 2022.. إلخ)، مما يفسح المجال لقصصٍ صغيرة أخرى على صلةٍ بالقصّة الأساسيّة وبطلتها.
أمّا الفضاء المكاني فيُبنى على مبدأ التناقُض بين المكان المُغلَق: الغرفة التي صارت سجناً بسب الكورونا، والمكان المفتوح: شوارع باريس وحديقة مونسو قَبل زمنِ الحَجْر.
يَبلغ التوتُّر الدرامي ذروتَه في خاتمة القصّة خلافا للمُخطَّط المُتعارَف عليه في بناء السرد، فنحن لا نعرف هل تموت «آية» في غرفتها في المستشفى أم ستُكتب لها الحياة؟ أمّا اللّغة، فقد برْهَنتِ الكاتبةُ عن قدرتها على تطويعِها وعصْرَنَتِها كما في الأمثلة التالية: «كانت تتشافى بالعزلة» أو «الضوء الذي ندّته قطرات المطر»، وبدا أسلوبها غنيّاً بالصور المُثيرة للدهشة: «غبار كثير انهمَر على خدَّيْها، فاستقرَّ على شكلِ نقاطٍ من النَّمَش»، وأتت عباراتها سلسة، منسابة، وخالية من كلِّ تكلُّف.
أقرب إلى قصيدة نثر
القصّة الثانية عنوانها «النّاسِك»، وهي أقرب إلى قصيدة نثر، إذ تزخر بالفانتازيا والصور ذات المنحى السريالي: «ما الضوء إلّا حانوتيّ يضفي على النهار مظهرَ الريح حين يختنق»، «تبدو لي الحياة هلاميّة كالقفز فوق ترامبولين في قالبٍ من الجيلو». لكنّ شَطحات الخيال ليست اعتباطيّة البتّة، بل إنّها تتكامل مع التفكير الواعي والتأمُّل العميق في قضايا وأسئلة تَطرَح نفسَها على صاحبته. أوّل هذه الأسئلة سؤال الكتابة والتلقّي، فتُجيب عنه بما مفاده أنّ الكتابةَ تعريةٌ للذات، وإعادةُ بناءٍ لها، وابتداعُ لغةٍ فريدة.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية