يشكّل الاقتصاد تحديًا أساسيًا للقوى السياسية الجديدة في سوريا، مع سقوط نظام بشار الأسد، في ضوء التركة الثقيلة التي خلّفها حكم حزب البعث وآل الأسد لسوريا، على امتداد العقود الماضية.
فقد تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947 كحزب قومي عربي يهدف إلى تحقيق الوحدة العربية متبنيًا الحرية السياسية والاشتراكية كنهج اقتصادي[1]، إلا أن الحزب لم ينجح في أن يبقى موحّدًا، فحصلت بين جناحيه السوري والعراقي خلافات واسعة أفضت لقطيعة بين البلدين الشقيقين لسنوات طويلة.
بعد سنوات من نجاح البعث في الوصول إلى السلطة في كل من العراق وسوريا، هيمن العسكر على قراره وخرج من البعث كبار مفكريه أو حافظوا على وجودهم شكليًا.
تسلم البعث السلطة في سوريا عام 1963، ليثبت نفسه بوصفه "حزبًا قائدًا"، معزّزًا ذلك بنصوص دستورية، وتسلم حافظ الأسد قيادة الحزب فعليًا في 1970، ثم ورّث ابنه بشار عام 2000 ليتم اقتلاعه بثورة شعبية واسعة استمرت 14 عامًا؛ قبل أن تطيح بنظامه أواخر عام 2024.
أولاً: الاقتصاد السوري عام 1963 وحتى عام 1970
مر الاقتصاد السوري بمرحلة صعبة بعد الاستقلال عام 1946؛ تمثلت باختلاف السياسات الاقتصادية والانقلابات العسكرية، ثم مرحلة الوحدة بين سوريا ومصر التي أثرت على الصناعة السورية نتيجة لقرارات التأميم والخوف الذي ولّده لدى كبار الصناعيين.
في الثامن من مارس/ آذار عام 1963 وصل حزب البعث إلى حكم سوريا، ودفع إلى إيقاف الإجراءات الاقتصادية التي كانت تعمل عليها حكومة خالد العظم في دمشق[2]، ولا سيما تلك التي تتعلق بإلغاء قرارات التأميم، ليعود القطاع الخاص للتخوف من توسع عمليات التأميم، وتهميش رجال الأعمال.
وبالفعل، في أكتوبر/ تشرين الأول 1963 تبنى حزب البعث العربي الاشتراكي وثيقة ياسين الحافظ[3] التي دعت للانتقال الاشتراكي للدولة عبر عملية تأميم شاملة لوسائل الإنتاج[4]، فعلى سبيل المثال تم تأميم بنك الشرق، والبنك العربي وبنك أصفر وسارة، إضافة لإصدار قانون الإصلاح الزراعي الشهير.
بعد مرحلة الاستقلال؛ مر الاقتصاد السوري بفترة من الاضطرابات المتمثلة بانقلابات سياسية متعددة، لكنه استطاع خلالها أن يكون قطاعاً صناعياً جيداً، مع امتلاكه لبنى تحتية، وهيكلية إدارية، ومؤسسات حكومية جيدة.
ولم تقتصر عملية الانتقال للنظام الاشتراكي على تأميم الشركات بل أخرجت النخب الاقتصادية -المؤمنة بالعمل الاقتصادي الحر- أمثال نعمان الأزهري (وزير المالية في حكومة مأمون الكزبري) وجورج سارة (رجل أعمال ومدير تجارة في حكومة عطا الأيوبي)، مقابل إحلال نخبة عسكرية جديدة غير تقنية سيطرت على الاقتصاد بمفهوم يتناسب مع الفكر المركزي.
ومع مرور الوقت تصاعدت عمليات التأميم لتصل إلى تأميم 120 شركة عام 1965[5]، واحتكرت الحكومة قطاعات استراتيجية مهمة مثل الحبوب والقطن والعقاقير الطبية.
يمكن تلخيص الوجه الاقتصادي لسوريا في الفترة التي أتت فيها ثورة الثامن من آذار 1963 وحتى الحركة التصحيحية في 1970 بثلاث نقاط رئيسية هي:
تبني النهج الاشتراكي المركزي لقيادة اقتصاد الدولة، والاعتماد على التخطيط المركزي المصادق عليه من قبل قيادة الحزب.
إحلال طبقة عسكرية غير متخصصة ومن خلفيات ريفية بدلاً من النخب الاقتصادية الموالية لبرجوازية المدينة، مما ساهم في الصراع بين الحاكمين الجدد للاقتصاد والخبراء القدامى حتى داخل الحزب.
تأميم عدد واسع من المؤسسات، مما دمر عمليات الاستثمار، وأخرج القطاع الخاص من البلاد بأمواله ورجال أعماله.
مع وصوله إلى السلطة عام 1963 عمل حزب البعث على تطبيق الاشتراكية كنهج اقتصادي للدولة، فقمام بتهميش القطاع الخاص - غيتي
ثانياً: الاقتصاد السوري في عهد حافظ الأسد
تسلّم حافظ الأسد السلطة أواخر عام 1970، ليبدأ عهد الرجل الواحد داخل الحزب الواحد الحاكم للبلاد؛ مما عزز المركزية، ليس فقط في الاقتصاد بل في مناحي الحياة كافة. وفي الحقيقة لم يكن لدى حافظ الأسد برنامج اقتصادي خاص به، ولذلك تبنى أفكار الحزب الذي ينتمي إليه، وأقرها دستوريًا، حيث ذكرت المادة 13 من دستور البلاد أن "الاقتصاد في الدولة اقتصاد اشتراكي مخطط، يهدف إلى القضاء على جميع أشكال الاستغلال"[6].
في الوقت الذي كان حزب البعث إيديولجياً يتبنى الاشتراكية، كان حافظ الأسد برغماتياً جمع بين الاشتراكية والحفاظ على التحالف مع القطاع الخاص المتبقي في سوريا لتثبيت حكمه.
ومع رغبة حافظ الأسد بتثبيت حكمه لفترة أطول وسط عمليات انقلاب عسكرية متعاقبة، سعى لكسب الطبقات السورية الأخرى بما في ذلك ما أطلق عليه اسم (البرجوازية الصغيرة) التي تتمثل بتجار ورجال أعمال من الطبقة الصغيرة والمتوسطة، وأطلق الأسد ما يعرف بالتعددية الاقتصادية التي تقوم على عمل القطاع الخاص بجانب الحكومي، بل وأن تجري شراكات بينهم تحت عنوان القطاع المشترك، وهو ما رسم مشهدًا أكثر تفاؤلاً من قبل القطاع الخاص.
ويمكن تلخيص المشهد الاقتصادي مع بداية حكم حافظ الأسد وحتى نهاية السبعينات بثلاث نقاط رئيسية هي:
عودة جزء من الاستثمارات الخاصة إلى سوريا، وبدء نشاط اقتصادي واسع للقطاع الخاص، خاصة في حلب ودمشق.
بدء استخراج النفط في سوريا -الذي اكتشف أواخر الستينات- بكميات تجارية قابلة لضخ مبالغ ضخمة للبلاد.
الانفتاح على الدول العربية والخليجية وإقامة مشاريع بنى تحتية ضخمة نسبيًا مثل سد الفرات ومحطات الكهرباء.
مع وصول حافظ الأسد للسلطة تم تقديم ضمانات أكبر للقطاع الخاص الذي حافظ على وجوده - غيتي
في فترة الثمانينات واجه حافظ الأسد تهديدًا سياسيًا كاد أن يطيح به، وانعكس هذا التهديد على الواقع الاقتصادي الذي أدى لتراجع الاقتصاد الوطني، وبدأت الليرة السورية تفقد جزءًا من قيمتها، وارتفعت الأسعار بنسبة كبيرة[7]، كما بدأت آثار الاشتراكية المركزية وتعيين المسؤولين بناءً على الولاء وليس الكفاءة تظهر بوضوح في شكل خسائر متراكمة لمعامل الدولة، كما ساهم الصراع بين حافظ ورفعت الأسد في تفريغ خزينة المصرف المركزي[8]؛ الأمر الذي عزز تراجع قيمة الليرة.
وفي ظل واقع اقتصادي وسياسي صعب يواجهه الأسد، ساند الأخير إيران في حربها ضد العراق، مما وضع سوريا تحت حصار وعقوبات اقتصادية، وتوقفت المساعدات الخليجية التي كانت تأتي إلى سوريا في مقابل مساعدات إيرانية على شكل براميل نفط تتدفق بشكل دوري إلى البلاد، وبدأت سوريا تواجه مشاكل على مستوى تأمين القطع الأجنبي وبالتالي الغذاء، مما جعل الأسد يرفع شعارات مثل الاكتفاء الذاتي والتقشف في ظل فساد مستمر تمثل باستغلال مؤسسات الإنتاج العامة، والاعتماد على مواد مهربة -لكسر الحصار- أدت بالنتيجة لمنافسة الصناعات الخاصة الوطنية، وأضعفتها.
وبالملخص كانت فترة الثمانينات فترة اقتصادية صعبة، تمثلت آثارها بـ:
توقف المساعدات الخليجية والحصار الاقتصادي على البلاد بسبب الاصطفاف السياسي بجانب إيران.
الاعتماد على اقتصاديات التهريب بدلاً من تقوية القطاع الصناعي الخاص الذي كانت أمامه فرصة كبيرة لتقوية نفسه وسد احتياجات السوق.
انهيار سعر الليرة السورية وارتفاع الأسعار وانتشار البطالة، وبدء حصاد سياسة الفساد التي خلفت خسائر كبيرة في المنشآت الإنتاجية التابعة للدولة.
تضخم الجهاز الإداري والفني الحكومي لغرض كسب الولاءات وإرضاء الشارع الساخط، مما رفع من نسب البطالة المقنعة.
في فترة الثمانينات بدأت مظاهر الفشل الإداري، والفساد، وعدم قدرة الاشتراكية على تحقيق أي نتائج حقيقية بالظهور - غيتي
مع مطلع التسعينيات أدرك النظام السوري أنه لا بد من كسب القطاع الخاص، وأن أموال السوريين داخل وخارج البلاد لم تكن مستثمرة في الاقتصاد فعليًا، وبالتالي لو تم استثمارها فإن البلاد ستنتعش بشكل كبير. عمل الأسد على إصدار قانون الاستثمار رقم [9]10، وهو ما ترافق مع انهيار منظومة الاشتراكية العالمية متمثلة بالاتحاد السوفياتي، وبدأت بالفعل الاستثمارات الخاصة تدخل البلاد، ولكنها واجهت منظومة كبيرة من الفساد المنظم المتعطش للرشوة والمحسوبية، كما واجه المستثمرين قوانين معقدة، وعقليات حكومية صعبة[10]، كما أن الهواجس الأمنية[11] لدى النظام السوري والمصالح العسكرية أخرت هذه الاستثمارات وجعلت معظمها تراخيص إدارية بدون تنفيذ.
شهدت فترة الثمانينات عقوبات اقتصادية على سورية نتيجة الموقف المتبع من قبل حافظ الأسد بالاصطفاف مع إيران في الحرب الإيرانية العراقية، وتوقفت المساعدات العربية لتحل محلها مساعدات إيرانية.
وبالملخص يمكن القول إن فترة التسعينات كانت محاولة لإصلاح الاقتصاد السوري عبر ظروف داخلية صعبة، وضغوط خارجية متمثلة بفشل الاشتراكية الدولية، وموجات العولمة والشركات عابرة الجنسية، ورغم تجاوب القطاع الخاص والمستثمرين العرب والسوريين إلا أن الهواجس الأمنية ومنظومة الفساد منعت معظمهم من الاستمرار في العمل.
كانت حصيلة التسعينات هي خسائر كبير في المؤسسات الإنتاجية المملوكة للدولة، واعتماد سوريا على النفط والمساعدات الخارجية - غيتي
ثالثاً: الاقتصاد السوري في عهد بشار الأسد وحتى 2011
تولى بشار الأسد السلطة عام 2000 بعمر 34 عامًا بالاعتماد على البنية الأمنية والسياسية والاقتصادية التي ورثها من والده، ولكن الأسد الابن أتى بخطاب اقتصادي وسياسي منفتح للغاية ويبعث على التفاؤل.
وفي هذا الوقت كانت موارد الاقتصاد السوري الرئيسية تعتمد على مساعدات خارجية (متولدة من استثمار الدور السياسي والأمني السوري في المنطقة) وموارد نفطية تصب في ميزانية الأسرة، مع قطاع خاص ضعيف وبنية اقتصادية عامة ضعيفة مقارنة بدول المنطقة، ومؤسسات إنتاجية حكومية خاسرة[12].
تقدمت نخبة اقتصادية جديدة للواجهة بدعم من بشار الأسد، وارتكزت إلى نفوذ وأموال جمعها مسؤولون سابقون ورجال أعمال في عهد الأسد الأب، وكانت النخبة الجديدة معظمها من "أبناء آبائهم"[13] الذين ورثوا السلطة والمال معاً.
لقد شكلت تلك الطبقة المكونة من أبناء أمراء الفساد صورة واقعية وطبق الأصل لنظيرتها الحاكمة في كل من الشكل والمضمون، فتعاملت مع الاقتصاد كما السياسة، من وجهة النظر الحصرية والاستئثار الكلي، بوصفه حقلًا خاصًا لها وحدها. وقد أفضى هذا التحول العلني في الاقتصاد السوري إلى تغيير الصيغة القديمة المتمثلة في سياق يحكم ويستفيد إلى سياق "يملك ويحكم في آن معًا"[14].
وسرعان ما أعلن بشار الأسد عن نهج اقتصادي جديد أطلق عليه اسم اقتصاد السوق الاجتماعي، وكأنه يجمع بين رغبة تيارات معينة بالانفتاح والاستفادة من الاستثمارات الخاصة، ورغبة قطاعات أخرى بالحفاظ على الدعم الاجتماعي والحفاظ على هيكل الاشتراكية قائمًا بشكل ما، وبالفعل ظهر أن النخبة الاقتصادية الجديدة سيطرت على معظم الاقتصاد الوطني، في حين أن الحكومة حافظت على مؤسساته العامة مع تقليل الإنفاق على هذه المؤسسات، والحفاظ على الدعم.
بشار الأسد أتى ببرنامج إصلاحي، ولكنه لم يطبقه إلا وفق رؤيته، فاستفاد منه المتنفذون من الطبقة المرافقة له، وانتقل وضع البلاد من " يحكم ويستفيد" إلى " يحكم ويملك معاً".
في عام 2008 بدأت الحكومة بإظهار شكل أكثر ابتعادًا عما هو "اجتماعي" فرفعت سعر السماد، وتضاعف سعر المازوت ثلاث مرات، لتبدأ مرحلة جديدة في رفع الدعم، في ظل ظروف مناخية لم تخدم قطاع الزراعة؛ تسبب بهجرة مئات الآلاف من المواطنين من دير الزور والمناطق الزراعية ليتركزوا في أطراف المدن الكبرىـ[15] وهو ما عزز ظاهرة العشوائيات والمناطق ضعيفة الخدمات، ورفع من مستويات الفقر، وألقى بضغطه على البنى التحتية في المدن الكبرى دون مساعدات حكومية حقيقية.
وعلى الرغم من أن مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي بلغت حوالي 65% عام 2008 فإن الضرائب المباشرة التي سددها القطاع الخاص للخزانة العامة بالأسعار الجارية في ذلك العام لم تتجاوز 2% من الناتج، في حين سدد القطاع العام الذي تراجعت مساهمته في الناتج في العام نفسه إلى 35% في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سدد حوالي 5% من الناتج المحلي.[16]
استطاع القطاع الخاص المدعوم من قبل بشار الأسد بشكل مباشر أن يرفع استثماراته في الدولة، ولكن معظم الاستثمارات كانت في قطاع الخدمات من تجارة خارجية وسياحة وأعمال نقل، مع تهميش واضح لقطاع الصناعة والزراعة والقطاعات الإنتاجية التي يمكن أن تشغل.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من التلفزيون العربي