مع تعمق الأزمة الاقتصادية، بات الحد من «الإنفاق العام» في ليبيا «طوق نجاة» في عام 2025، لكن هذا الرهان معلق على شروط، أبرزها توحيد موازنة العام الجديد.
وبلغ الإنفاق العام 77 ملياراً و325 مليون دينار (15.6 مليار دولار) في 2024، وبات يمثل معضلة كبيرة، خاصة في ظل انقسام الدولاب الحكومي بين الشرق والغرب، ما دفع صندوق النقد الدولي، لطلب وضع ميزانية موحدة تخضع لآليات الرقابة وخالية من دعم المحروقات، قبل محادثات الطرفين المقررة في أبريل المقبل.
ولم يتم الإعلان عن رقم محدد أو متوقع عن ميزانية 2025 حتى الآن. لكن في ديسمبر الماضي، عقد مصرف ليبيا المركزي اجتماعاً بمشاركة نائب المحافظ وعدد من الأعضاء، ناقش فيه ميزانية 2025، وأقر رفع الدعم عن الوقود وتوحيد أوجه الإنفاق العام، بل والحد منه في أولويات الإنفاق.
وبلغت ميزانية ليبيا خلال عام 2024 نحو 37 مليار دولار، والمفترض أن تحوم حولها ميزانية العام الحالي بالزيادة وليس النقصان، وفق تقارير محلية.
ويتفق خبراء صندوق النقد والسلطات في ليبيا بصفة عامة، على توقعات بنمو إجمالي الناتج المحلي في العام 2025، إثر الارتفاع المتوقع في إنتاج النفط. لكن هذا النمو المتوقع مشروط بعدم انخفاض أسعار النفط إلى مستويات دون المتوقعة، أو تجدد التوترات السياسية في ليبيا، لأن من شأن هذه التطورات أن تقلص الحيز المالي المتاح في البلاد.
ورغم ذلك، ترى وزارة التخطيط الليبية، أن إعداد تقديرات الميزانية العامة للعام المالي 2025، ليست عملية جزافية، ومؤسسة أولاً على تقدير الإيرادات، وتقدير النفقات. وإثر ذلك، طلبت الوزارة من جميع الجهات، أن يقتصدوا أو بمعنى أدق الترشيد في تقديراتها إلى الحد الذي يسيّر أعمالها، بل يجب أن تؤسس هذه التقديرات على أسس واقعية وبيانات فعلية وتوقع سليم.
وشددت وزارة التخطيط الليبية، في بيان الشهر الماضي، على ضرورة تشكيل لجنة لهذا الغرض في كل وزارة أو مصلحة أو وحدة إدارية حكومية تتولى مهمة إعداد مقترح لتقديرات مشروع الميزانية العامة.
مطالبات دولية
على الجانب الآخر، حثت الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، أطراف السلطة، خلال الأسابيع الماضية، على اعتماد موازنة موحدة في 2025، انطلاقاً من أن ليبيا التي تعد من أبرز الدول المنتجة للنفط وكعضو في منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك»، بحاجة إلى مثل هذه الخطوة، مع تزايد الأزمات الاقتصادية مثل شح السيولة، وتراجع قيمة العملة المحلية.
وأكد خبراء صندوق النقد الدولي، الشهر الماضي، الحاجة إلى «ضبط الإنفاق العام» في ليبيا من خلال اتباع إصلاحات، منها الاتفاق على موازنة موحدة للعام 2025، وإصلاح دعم الطاقة، ووقف الدعم غير الموجه الذي يشكل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي، ويستنزف الموارد، وبالتالي يحد من الإنفاق على القطاعات المنتجة في ليبيا.
ودعم خبراء الصندوق، خلال مناقشة آخر التطورات الاقتصادية والآفاق الاقتصادية الكلية، جهود «مصرف ليبيا المركزي»، في تقليص الفجوة بين سعري صرف الدينار، واتخاذه خطوات لتنظيم أنشطة مكاتب الصرافة، والتوسع في تقديم خدمات الدفع الإلكترونية.
وبلغ سعر صرف الدولار أمام الدينار في السوق الموازية اليوم، 6.44 دينار، فيما استقر سعر الدولار الرسمي عند 4.93 دينار.
77 مليار دينار
وفيما يتعلق بحجم الإنفاق العام في سياق ميزانية 2024، أعلن مصرف ليبيا المركزي، في نوفمبر الماضي، تسجيل إيرادات عامة إجمالية بلغت 81.8 مليار دينار خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2024، فيما سجلت النفقات العامة 77 ملياراً و325 مليون دينار خلال الفترة نفسها.
وأظهرت بيانات المصرف، أن نفقات الرواتب وحدها بلغت أكثر من 48 مليار دينار (نحو 59% من الإيرادات) في تلك الفترة (دون احتساب رواتب أكتوبر)، والنفقات التسييرية أكثر من 6 مليارات دينار، ونفقات التنمية قرابة 350 مليون دينار، ونفقات الدعم 12 مليار دينار.
وبذلك، فإن إجمالي نفقات الرواتب والدعم، بلغ 60 مليار دينار في الأشهر العشرة الأولى في 2024، ما يشكل 73% من إجمالي الإيرادات.
وفي أكتوبر الماضي، كشفت هيئة الرقابة الإدارية الليبية، خلال استعراض تقريرها السنوي، تجاوز قيمة الإنفاق العام أكثر من 722 مليار دينار خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 2012 و2023، خُصِّص منها نحو 372 ملياراً لرواتب العاملين بالدولة.
كما بلغ إجمالي الدين العام عن الفترة الممتدة من 2011 وحتى نهاية 2023 أكثر من 154 مليار دينار، وذلك بحسب بيانات صادرة من جهات رسمية استندت إليها هيئة الرقابة الإدارية.
دلالات الإيرادات الضريبية
الأكثر من ذلك، كشف تقرير ديوان المحاسبة الصادر في نوفمبر 2024، ارتفاع الإيرادات الضريبية نتيجة "التوسع في الإنفاق العام"، إذ سجلت هذه الإيرادات ارتفاعا بـ38% خلال العام 2023 مقارنة بالعام الذي سبقه.
وتشير بيانات ديوان المحاسبة إلى أن إجمالي الإيرادات الضريبة خلال العام 2023 بلغ مليارين و542 مليوناً و134 ألفاً و334 ديناراً، مقارنة بمليار و831 مليوناً و658 ألفاً و358 ديناراً. ولاحظ الديوان ارتفاع جباية الضريبة على الدخل من الرواتب وما في حكمها، لتشكل 39% من إجمالي الحصيلة الضريبية.
وبناء على ذلك، قال ديوان المحاسبة في تقريره، إن بقاء الضريبة على الرواتب والدمغة في مقدمة الموارد الضريبية، "يدل على أن اعتماد المصلحة على الإنفاق العام، وعدم الاهتمام برفع كفاءة التحصيل في بنود أخرى".
من الرواتب إلى جانب آخر من الإنفاق العام؛ دعم المحروقات، إذ وصلت كلفة هذا الدعم 12.8مليار دينار ليبي في الفترة من يناير إلى نوفمبر 2024.
هذه الإحصائية تقودنا إلى نقطة جدل ساخنة في الفترة الحالية في ليبيا، تتعلق بالحديث عن رفع الدعم عن المحروقات، إذ أصبح الحديث عن رفع الدعم عن المحروقات واستبداله بالدعم النقدي، مصدر قلق كبير بين الليبيين، وسط تساؤلات عن تأثير هذا القرار المحتمل وآليات تطبيقه.
وفي ديسمبر الماضي، وافقت الحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد، على مقترح رفع الدعم عن الوقود والمحروقات، وإعداد آلية مناسبة لتنفيذ هذا الإجراء، ضمن اجتماع تشاوري مع نائب محافظ المصرف المركزي الليبي مرعي البرعصي، وأعضاء اللجنة المكلفة من المحافظ لإعداد تصور الميزانية العامة للعام 2025.
الانقسام يطال الإنفاق العام
وتشهد ليبيا منذ سنوات انقساماً بين حكومتين إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، لكل منهما دولابه الإداري ونفقاته، ما يفاقم المشكلة.
ومؤخراً، قال رئيس حكومة «الوحدة الوطنية» عبد الحميد الدبيبة، إن حجم ما أسماه "الإنفاق الموازي" (يقصد الحكومة الأخرى) في ليبيا بلغ 40 مليار دينار في 2024، موضحاً أن حكومته تخضع للرقابة، فيما لا يخضع "الإنفاق الموازي" للرقابة.
وأوضح أن «ما تم تخصيصه لإحدى الجهات غير الخاضعة للرقابة دفعة واحدة، يتجاوز ميزانية التنمية في ليبيا لأكثر من أربع سنوات».
وهو ما نفاه، أسامة حماد رئيس حكومة الشرق المكلفة من مجلس النواب، إذ قال إن تصريحات الدبيبة بشأن وجود إنفاق موازٍ تعد «بمثابة تبرير لإخفاقات حكومته في المجالات جميعها، وآخرها افتعال أزمة وهمية لزيادة أسعار النقد الأجنبي في السوق الموازية».
وتابع حماد، أن حكومته ومنذ منحها الثقة من مجلس النواب، «تقوم بالصرف وفقاً للميزانيات المعتمدة من مجلس النواب»، متهماً حكومة الدبيبة بـ«إهدار مئات المليارات دون سند قانوني يجيز ذلك».
حماد اتهم حكومة الدبيبة أيضاً «بـالتنازل وبالمجان، عن العقارات والاستثمارات الخارجية المملوكة للدولة الليبية، في مقابل مكاسب سياسية لتحقيق مصلحة غير مشروعة».
روشتة الحل
ووفق دراسة أعدها الباحث في جامعة بنغازي مجدي الورشفاني، فإن الإنفاق العام في ليبيا، لم يساهم في تحقيق تنمية اقتصادية، لعدة أسباب أبرزها: التوسع في الإنفاق على مشروعات غير ذات جدوى اقتصادية للبلاد، والتوسع في الإنفاق التيسيري والدعم على حساب الإنفاق التنموي.
ولمواجهة معضلة الإنفاق العام، رأى الدكتور محمود الشاوش، المدير العام الأسبق لمصلحة الضرائب في ليبيا، أن هناك ضرورة لاتفاق السلطات الليبية على «أولويات الإنفاق» العام من خلال ميزانية موحدة ومعتمدة لعام 2025.
وأضاف، في حديث لـ«إرم بزنس»، أن هذا التوافق يجب أن يشمل تأكيداً على أهمية الرقابة والشفافية، وبالتالي وجود سقف نفقات لا يتجاوز الإيرادات، ما يمنع الهدر وتعطّل المشروعات، ويعيد الثقة للمستثمرين والمواطنين.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس