قبل ما يقرب من 80 عاما، كانت مجموعة من المعلمين والطلبة السوريين تبشر في المقاهي والمدارس بأفكار تدعو إلى وحدة العرب تحت مظلة حزب واحد يقود "الأمة العربية" إلى مستقبل واعد.
وبعد نحو عشرين عاما على ذلك، سيحكم الحزب - الذي سيحمل اسم "البعث" - سوريا، قبل أن تتطور الأمور ويكون اسمه مرتبطا عند معارضيه بالقمع والتسلط السياسي في البلاد.
فكيف تطور حزب سياسي أنشأه حالمون بمستقبل أفضل، إلى أداة للاستبداد ورمز للديكتاتورية؟ وهل يتعلق الأمر بسوء تطبيق أفكاره، أم أن الأزمة تكمن في تلك الأفكار ذاتها؟
وحدة العرب وُلد حزب "البعث" من رحم أفكار تدعو إلى وحدة العرب، وهي أفكار بدأت بالتشكل في أواخر القرن التاسع عشر في مناطق عدة بالشطر الآسيوي من العالم العربي، كانت حينها خاضعة للحكم العثماني منذ القرن السادس عشر.
وفي بداية العقد الثاني من القرن العشرين، بدأ مثقفون موالون لفكرة العروبة بمعارضة توجهات السلطات الجديدة في الدولة العثمانية التي تبنت سياسة التتريك ومحاباة القومية التركية.
ثم جاءت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) لتعطي زخما لأفكار توحيد العرب ضمن دولة واحدة في ظل الانتفاضة المسلحة ضد الحكم العثماني التي قادها حاكم مكة الشريف حسين، المدعوم من قبل بريطانيا، وما تلاها من تولي ابنه فيصل عرش سوريا، قبل أن يخلعه الفرنسيون ويتولى لاحقاً حكم العراق بدعم البريطانيين عام 1921.
كانت حدود الأمة العربية الموحدة التي حلم بها فريق القوميين الأوائل تنتهي عند صحراء سيناء قبل أن تتطور الفكرة لاحقاً لتشمل مصر والدول المغاربية في شمال إفريقيا، على حد قول المؤرخ اللبناني الأصل ألبرت حوراني في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة: 1798 1939".
جدل التأسيس وبينما كانت سوريا خاضعة للاحتلال الفرنسي في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت الأصوات الداعية للوحدة العربية في تأسيس جماعات وأحزاب سياسية تدعو أيضا للاستقلال والتخلص من الاستعمار.
وجاءت حقبة أربعينيات القرن العشرين لتشهد سوريا تأسيس حزب البعث، الذي يبدو أنه يثير الجدل والنقاش حتى في محاولة تحديد التفاصيل الخاصة بمولده.
فهناك روايتان حول مؤسس "البعث"، إحداها ترجّح أنه من بنات أفكار زكي الأرسوزي، ابن مدينة اللاذقية، فيما تقول الأخرى أنه تأسس على يد اثنين من مثقفي دمشق، وهما ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار.
كان الأرسوزي يمتهن التدريس وواصل دراسته في جامعة السوربون بفرنسا قبل أن يعود ويشهد حالة الغضب في سوريا حيال قرار فرنسا التنازل عن منطقة الإسكندرونة لصالح تركيا عام 1939، وهو ما دفعه إلى التمسك بالأفكار القومية العربية.
وتتسم كتابات الأرسوزي بتمجيد مفهوم الأمة متأثرا بآراء المفكرين الألمان الذين دعموا وحدة ألمانيا في القرن التاسع عشر.
كذلك كان يبالغ في إشادته بأصالة اللغة العربية جاعلًا إياها أصل الكثير من اللغات السامية، فأسماء الفراعنة والكلدانيين والآشوريين "إنما هي تحريف لأسماء عربية" كما جاء في كتابه "الأمة العربية: ماهيتها، رسالتها، مشاكلها".
وبينما كان يشيد الأرسوزي بالعرب لدرجة ترفعهم إلى مقام التقديس، فإن كتاباته احتوت أيضا على عبارات مسيئة بحق شعوب أخرى كالأتراك والفرس (الإيرانيين).
وتفيد روايات تاريخية بأن الأرسوزي أسس مع عدد قليل من رفاقه، حزبا سماه البعث في عام 1940.
وبغض النظر عن الاسم الذي حمله حزب الأرسوزي، فإنه لم يستمر طويلًا، إذ سرعان ما انفض رفاقه عنه، لينضموا إلى تجمع قومي آخر.
في ذلك الوقت كان عفلق والبيطار، وهما أيضاً ممن درسوا في جامعة السوربون، يبشران بالقومية العربية بين طلاب مدرسة التجهيزية الثانوية بدمشق حيث كانا يعملان في التدريس، بحسب دراسة الأكاديمي السوري نبيل الكيلاني "البعث السوري: 1940-1958: نجاح سياسي وإخفاق حزبي".
وبينما كان البيطار مدرساً للعلوم والرياضيات، فإنّ تخصص عفلق في التاريخ ساعده في صقل كتاباته المبشرة بالقومية العربية، والتي ستصبح فيما بعد أهم أدبيات التيار القومي.
وتمتلئ كتابات عفلق بالإشارات إلى ضرورة إحداث انقلاب ثقافي وروحي في عقول العرب لكي يضطلعوا بمهمة تحقيق الوحدة بينهم، التي ستكفل لهم العودة إلى المكانة البارزة التي كانوا يحتلونها في الماضي بحسب رأيه، وهي الفكرة التي ستتجسد في شعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة".
ومن اللافت أيضاً في كتابات عفلق، وهو المسيحي الأرثوذكسي، الإشادة المتكررة بالإسلام والنبي محمد، ففي خطاب شهير عام 1943، أثنى عفلق على سيرة حياة النبي العربي التي قال إنها "صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية".
وفي النهاية تجمع في مقهى الرشيد بالعاصمة دمشق في أبريل/نيسان عام 1947 عشرات الشباب أغلبهم من سوريا في مؤتمر تأسيسي لتبني صيغة دستور لحزب البعث العربي وانتخاب لجنة تنفيذية كان على رأسها عفلق والبيطار.
والبعث عند الآباء المؤسسين للحزب، سواء الأسوزي أو عفلق والبيطار، هو مرادف للإحياء، إي استعادة "الفترة الذهبية للعرب"، دون تحديد دقيق لبداية تلك الحقبة الزمنية ونهايتها. لكن يمكن القول إنها تشمل مرحلة تأسيس الدولة التي ظهرت مع انتشار الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي وامتدت لتشمل مناطق شاسعة من آسيا وأفريقيا بل وحتى أوروبا.
الحوراني والعسكر في عام 1949، أعلن القائد العسكري حسني الزعيم حل مجلس النواب وأطاح بالحكومة ورئيس الجمهورية السورية، لتدخل البلاد في الدوامة الأولى من الانقلابات العسكرية التي استمرت حتى عام 1954.
وخلال تلك الفترة، بدأت تتشكل علاقة معقدة بين الجيش السوري والأحزاب، ومن بينها حزب البعث.
ففي غضون خمس سنوات سيسجن عفلق لفترة قصيرة، ثم يتولى بعدها وزارة المعارف، ثم يُنفى خارج البلاد .
وخلال تلك الفترة، لم يمتلك حزب البعث قاعدة جماهيرية كبيرة، إذ ظل حزباً للطلاب والمثقفين من أبناء الريف، وهو الأمر الذي سيتغير مع قدوم السياسي أكرم الحوراني.
كان الحوراني من مواليد حماة، وقد أولى اهتماماً مبكراً بأوضاع الفلاحين المتدهورة وعلاقتهم بكبار الملاك، ما أكسبه شعبية في أوساط المزارعين المهمشين في محافظة حماة، سمحت له بدخول البرلمان السوري أكثر من مرة، بل وتم اختياره لشغل منصب وزير الدفاع.
وفي عام 1952، اتفق ميشيل عفلق وصلاح البيطار مع أكرم الحوراني على أن يندمج حزب الأخير، العربي الاشتراكي، مع حزبهما، البعث العربي، لتكوين حزب البعث العربي الاشتراكي.
وسرعان ما ظهرت ثمار هذا الاندماج في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 1954 بعد سقوط حكم القائد العسكري أديب الشيشكلي.
فبينما تصدر حزب الشعب صاحب الشعبية الكبيرة في حلب قائمة الأحزاب الفائزة، تمكن حزب البعث من تحقيق مفاجأة بحصد العديد من المقاعد، إذ فاز بأغلبية المقاعد في محافظة حماة، معقل أكرم الحوراني، وبدأت أفكار الحزب بالانتشار في دول أخرى، أبرزها العراق.
وكانت أفكار حزب البعث الاشتراكية جاذبة لقطاع من السوريين من أبناء الأصول الريفية على اختلاف خلفياتهم الدينية، كما أدت التركيبة السكانية لسوريا إلى زيادة جاذبية البعث عند الأقليات، فالحزب ذو التوجهات الاشتراكية الداعمة للإصلاح الزراعي كان أكثر شعبية في الأرياف التي يتزايد فيها وجود الأقليات مقارنة بالمدن الكبرى ذات الحضور السني المكثف، بحسب ما جاء في كتاب الباحث والدبلوماسي الهولندي نيكولاس فان دام "الصراع على السلطة في سوريا".
وتأسس الحزب على أساس هرمي، على رأسه القيادة القومية بزعامة عفلق بوصفه الأمين العام، تلتها فروع في الأقطار العربية تعتني بشؤون الحزب في كل بلد عبر قيادة قطرية.
وبدا في تلك الفترة أن الأحزاب السياسية في سوريا لم تعد مهتمة برصيدها الجماهيري فقط، بل سعت أيضاً إلى اجتذاب ضباط الجيش.
إذ كان للبعث، كغيره من الأحزاب السورية، أنصار داخل الجيش، ولعل من أبرزهم العقيد عدنان المالكي، الذي أدى اغتياله في عام 1955 إلى إقصاء الحزب القومي السوري من الساحة السياسية بعد أن اتُهم الحزب بالمسؤولية عن حادثة الاغتيال.
لكن الضابط الذي سيلعب الدور الأهم في تاريخ البعث وسوريا في الفترة التي تلت ذلك لم يكن سورياً، بل جاء من مصر.
عبد الناصر كانت شعبية الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد تزايدت بشكل كبير في العالم العربي عقب قرار تأميم قناة السويس عام 1956، وما أعقبه من حرب شنتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل انتهت بتحقيقه مكاسب سياسية.
وفي العام التالي، كانت سوريا محط أنظار العالم في ظل إقدام الحكومة السورية على تعيين مسؤولين وضباط - كانت دول غربية تعتقد أنهم موالون للحزب الشيوعي السوري - في مناصب بارزة، الأمر الذي كاد أن يشعل فتيل مواجهة دولية بين الاتحاد السوفيتي، راعي الشيوعيين في العالم، والولايات المتحدة التي كانت تتوجس من أي مكاسب يحققها الشيوعيون في أي بقعة على الأرض.
وفي ظل هذه الأجواء، بادرت مجموعة من الساسة والضباط بالتوجه إلى القاهرة لكي تطلب من عبد الناصر القبول بوحدة بين مصر وسوريا.
كان من الطبيعي أن يتقدم حزب البعث وفود السوريين المبايعين لعبد الناصر صاحب التوجهات القومية، لكن الأمر قد يكون مرتبطاً أيضاً بخوف الحزب من تعاظم نفوذ الحزب الشيوعي المدعوم من قبل موسكو، كما يشير باتريك سيل في كتابه "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط".
وافق عبد الناصر على الوحدة مقابل شرطين رئيسيين، وهما حل الأحزاب في سوريا ليكون المشهد السياسي فيها مطابقاً للوضع في مصر، ومنع الجيش من المشاركة في السياسة.
وفي فبراير/شباط 1958، أُعلنت الوحدة بين مصر وسوريا، وأسندت للساسة البعثيين مناصب بارزة في "الجمهورية العربية المتحدة".
شهر العسل بين عبد الناصر والبعثيين لم يدم طويلاً، فبعد عامين استقال الساسة البعثيون من الحكومة احتجاجاً على تفرد المصريين بالقرارات المصيرية، إلى جانب توسع الدولة البوليسية التي كان أبرز ممثليها الضابط السوري عبد الحميد السراج، الذي كان يُنظر إليه كرجل عبد الناصر القوي في دمشق.
وخلال فترة الوحدة، أعربت مجموعة من الضباط السوريين الموالين للبعث، الذين تم نقلهم إلى مصر، عن سخطها حيال الأوضاع القائمة، هذه "اللجنة العسكرية"، التي كانت نواتها في عام 1960 مشكلة من خمسة ضباط كان من بينهم الضابطان الشابان صلاح جديد وحافظ الأسد، سيكون لها لاحقاً دور مهم في مستقبل سوريا.
وفي عام 1961، انتهى حلم الوحدة عبر انقلاب جديد في سوريا، وكان من اللافت أن القيادي البعثي أكرم الحوراني كان من بين الساسة الذين دعموا الانفصال عن مصر، بينما عارضه ميشيل عفلق، وتذبذبت مواقف صلاح الدين البيطار بين التأييد والمعارضة.
وجاءت تجربة الوحدة ثم الانفصال لتُحدث شرخاً بين قادة البعث وقاعدته، فهناك من وجد غضاضة في قبول الحزب شرط عبد الناصر بحل الأحزاب، بينما ندد فريق آخر بمشاركة قادة الحزب في دعم الانفصال عن مصر عبد الناصر.
البعث في الحكم شهدت سوريا عقب الانفصال عودة الحياة الدستورية وحرية الصحافة وإجراء انتخابات تنافسية، لكن تلك المرحلة لم تستمر طويلاً، إذ انتهت في عام 1963 الذي مثّل نقطة فاصلة في تاريخ حزب البعث في سوريا وخارجها.
ففي فبراير/شباط 1963، تمكن ضباط قوميون وناصريون وبعثيون من الإطاحة بحكم رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم، ليبدأ العراق مرحلة من التطورات انتهت في عام 1968 بانفراد حزب البعث بالحكم.
أما في سوريا، فجاء انقلاب 8 مارس/آذار 1963 الذي شارك فيه ضباط ناصريون وقوميون بجانب أعضاء اللجنة العسكرية البعثية، ليضع نهاية لحقبة الانفصال وما شهدته من انفتاح سياسي، ويدشن مرحلة جديدة في تاريخ البلاد.
كان الضباط البعثيون الشباب أكثر ولاء.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من بي بي سي عربي