أصبحت حقيقة أن أوكرانيا تخسر الحرب مع روسيا مقبولة على نطاق واسع. ففي خلال أقل من 6 أشهر تحولت الرواية السائدة لدى الغرب من الحديث عن تحقيق النصر إلى تجنب الهزيمة.
وكانت المكاسب المبكرة التي حققها الجيش الأوكراني في 2022 قد رفعت سقف أهداف الحرب لتصبح تحرير كامل الأراضي الأوكرانية التي ضمّتها روسيا، ومحاسبة الأخيرة على جرائم ارتكبتها. لكن هذه الأهداف لم تعد واقعية. وأصبح الحديث السائد بين مؤيدي أوكرانيا الآن يدور حول إنهاء الحرب بشروط تحرم روسيا من تحقيق الانتصار الكامل.
المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا والسؤال الآن هو كيف يمكن جعل روسيا توافق على وقف إطلاق النار والتفاوض عن نهاية لحرب تكسبها حاليا. ويمكن أن يقنع اقتراح جعل أوكرانيا دولة محايدة على المدى الطويل روسيا بالجلوس إلى مائدة المفاوضات، بحسب يوجين رامر المدير والزميل الكبير لبرنامج روسيا وأوراسيا في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي.
وفي تحليل نشره موقع مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، قال يوجين إنه مع اقتراب الحرب من دخول عامها الرابع، لا تستطيع أوكرانيا التغلب على تفوق روسيا شعبا واقتصادا وأرضا، رغم مساعدات الشركاء الغربيين لكييف. فروسيا تملك عدد سكان ضخم يتيح لها تجنيد المزيد من الرجال لمواصلة الحرب، واقتصادها يعادل نحو 10 أمثال اقتصاد أوكرانيا قبل الحرب.
والآن بعد أن خسر اقتصاد أوكرانيا حوالي نصف تريليون دولار، وفي ضوء حجم الدولة أصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل عليها استهداف منشآت البنية التحتية العسكرية الروسية بصورة فعالة. في الوقت نفسه فإن حلفاء أوكرانيا مثل الولايات المتحدة وغيرها من دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) واليابان وكوريا الجنوبية لا تشارك في القتال، في حين وصلت أوكرانيا إلى أقصى ما يمكن تحقيقه بمفردها على الأرض.
تطلب أوكرانيا من شركائها ضمانات أمنية ومنها عضوية حلف الناتو أو على الأقل مسار واضح وقصير للانضمام إليه كشرط مسبق للتفاوض مع روسيا. ولكن أعضاء الناتو أكدوا بوضوح أنهم غير مستعدين لضم أوكرانيا. وحتى أكثر المؤيدين لانضمام أوكرانيا إلى الناتو أصبحوا يرغبون في عدم دعوتها للانضمام قبل نهاية الحرب.
عضوية أوكرانيا في "الناتو" في المقابل، تعتبر روسيا أي تعهد من جانب الحلفاء بضم أوكرانيا إلى حلف الناتو ضربة قاصمة لأي مفاوضات لوقف إطلاق النار. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرى أن عضوية أوكرانيا في الناتو نتيجة غير مقبولة على الإطلاق، وقد أوضح ذلك في مقالته المنشورة عام 2021 حول "الوحدة التاريخية" المزعومة بين روسيا وأوكرانيا، والتي طرح فيها رؤيته للحرب. وإلى جانب الرواية الراسخة في المؤسسة الأمنية الروسية بأن الناتو خالف وعده بعدم تمدده إلى الشرق، قال إن احتمال انضمام أوكرانيا إلى الناتو هو دعوة لروسيا لمواصلة حملتها القاتلة ضدها.
ويرى يوجين في التحليل الذي كان جزءًا من مبادرة مجلس العلاقات الخارجية الأميركي لتأمين مستقبل أوكرانيا وبرنامج واشنهايم للسلام والأمن، أن أمام كييف مسارين:
الأول والذي تسلكه الآن هو معركة بطيئة ومضنية ومفتوحة النهاية في ظل الخطر المتزايد المتمثل في تحقيق الجيش الروسي اختراقا كبيرا من شأنه ألا يكون أمامها سوى قبول شروط بوتين للمفاوضات.
الثاني هو تقديم تسوية لبوتين تلبي بعض، وليس كل، شروطه وتتيح له إعلان النصر مع الحفاظ على أوكرانيا كدولة ذات سيادة.
ومع ذلك فلا أحد يعرف وربما بوتين نفسه، ما إذا كان الرئيس الروسي سيقبل بحل وسط. فجيشه يحقق مكاسب على الأرض، لكن هذه المكاسب تأتي بأثمان فادحة. والاقتصاد الروسي يحقق أداء يفوق التوقعات لكن معدل التضخم وأسعار الفائدة المرتفعة تهدد بعرقلة النمو وأصبحت البلاد تواجه نقصا حقيقيا في القوة العاملة.
في الوقت نفسه، من الصعب أيضا التنبؤ بشكل الحل الوسط المقبول. لكنه في أغلب الأحوال يجب أن يتضمن تنازلات أوكرانية عن أراض، بحيث تحتفظ روسيا بالأراضي التي استولت عليها. كما سيكون على أوكرانيا التعهد بعدم السعي إلى استردادها بالقوة، وبالتخلي عن حلم الانضمام إلى الناتو والقبول بالحياد أو "حالة عدم الانضمام إلى أي تحالف" والتي وصفها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في مقابلة مؤخرا بأنها "مبدأ أساسي".
أما ما لا يمكن أن يتضمنه أي حل وسط فهو فرض قيود على قدرات أوكرانيا على الدفاع عن نفسها في مواجهة أي عدوان روسي آخر.
ويقول يوجين إن هذه الشروط تبدو صعبة القبول بالنسبة لأوكرانيا، رغم أنها في الواقع لا تعني حرمان أوكرانيا من أي مكاسب متاحة أمامها. فهدف استعادة حدودها عام 1991 أصبح بعيد المنال، وعضوية الناتو لم تعد مطروحة أيضا.
في الوقت نفسه، فإن الحياد لا يعني فقدان الأمن ولا الدوران في الفلك الروسي. ففنلندا والسويد ظلتا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى نشوب الحرب الروسية الحالية ضد أوكرانيا خارج الناتو. وقبلت فنلندا بفقدان 15% من أراضيها لصالح الاتحاد السوفياتي في نهاية الحرب العالمية الثانية.
في الوقت نفسه احتفظت فنلندا والسويد بوجودهما كدولتين مستقلتين ذاتي سيادة، ثم انضمتا إلى الاتحاد الأوروبي بعد انتهاء الحرب الباردة وحققتا نهضة اقتصادية كبيرة.
ولكن هذا لا يعني أن أوكرانيا لابد وأن تحذو حذو النموذج الفنلندي أو السويدي أو أي نموذج آخر في سياستها الأمنية بعد الحرب. فليس هناك نموذج واحد يمكن لأوكرانيا أن تتبعه، لآن السياسة الأمنية لكل دولة تتحدد وفقاً لحجمها وموقعها الجغرافي وتاريخها واقتصادها وسياساتها. وبالتالي بوسع أوكرانيا أن تختار عناصر من نماذج مختلفة تناسبها على النحو الأفضل بحسب يوجين.
وبناءً على تجارب تلك البلدان، تستطيع أوكرانيا أن تضع مخططها الخاص لسياساتها الأمنية، بحيث لا يمنعها الحياد أو عدم الانحياز من الاحتفاظ بقوات مسلحة مدربة وذات قدرات عالية ومجهزة تجهيزاً جيداً، مدعومة بمجموعة كبيرة من جنود الاحتياط المدربين.
(وكالات)
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد