بقلم رئيس تحرير بلومبرغ John Micklethwait
نحن الصحفيون مجبولون بالارتياب، فترانا دائمي القلق من أن هناك شخصاً ما في مكان ما، ربما الحكومة أو محام أو زميل أو حتى قسم تقنية المعلومات، يريد بنا أو بتقاريرنا سوءاً.
لقد فاقمت أحداث القرن الواحد والعشرين هذه الريبة. حمل واحد من أغلفة مجلة "ذا إكونوميست" الأولى بعدما توليت رئاسة تحريرها في 2006 عنوان: "من قتل الصحافة الورقية؟" كانت الإنترنت حينئذ تقوض النموذج التجاري التقليدي الذي ركز على احتكار الإعلانات المبوبة، واعتمدته معظم الصحف الكبرى في المدن.
لكن عند النظر إلى ما سلف الآن، يبدو ما حدث أقرب إلى "الانتحار" منه إلى "القتل". سقطت كثير من وسائل الإعلام الجيدة في فخّ خطاب قطاع التقنية الذي روّج لفكرة أن زمن "وسائل الإعلام التقليدية" ولّى إلى غير رجعة وأن المحتوى يجب أن يكون مجانياً. هكذا، سرعان ما وجدت هذه المؤسسات نفسها عالقة في دوامة مفرغة من السعي خلف النقرات وخفض التكاليف، وراحت تتخلى عن أعمالها تدريجياً لصالح عمالقة التقنية.
لكن كانت الغلبة للمنطق في النهاية، فشرعت الصحف بتقاضي رسوم من قرائها، وبدأت وسائل الإعلام التقليدية تتعافى. صحيفة "نيويورك تايمز" مثلاً التي لم يكن لديها إلا نصف مليون مشترك رقمي حين ترأسها مارك تومسون في 2012، وراح يركز على بيع الاشتراكات، بات لديها اليوم أكثر من 10 ملايين مشترك.
أمّا الأصوات التي كانت تروّج في السابق لمنطق "المحتوى المجاني" فقد خفتت اليوم بعدما قادت كثيراً من الأسماء الكبرى لتسقط وتتحطم على صخور الهاوية.
حتى أن المنافسين الجدد، مثل "ذا أنفورميشن" (The Information) و"باك" (Puck) و"فري برس" (Free Press)، رغم أن اسم الأخيرة قد يوحي أنها مجانية، يعلمون أن القراء سيدفعون مقابل المحتوى عاجلاً أم آجلاً.
:
تأثير الذكاء الاصطناعي
ما كادت الصحافة الجادة تتأقلم مع الواقع الجديد الذي أحدثته الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حتى ظهر تحدّ أكبر: الذكاء الاصطناعي.
يعد الذكاء الاصطناعي بإحداث تحول عميق في قطاعنا، فيغير الطريقة التي نكتب فيها القصص ونحررها، ويتحدانا كما يتحدى غيرنا من العاملين في مجالات المعرفة، من محامين أو كتاب سيناريو أو محاسبين.
كيف ستتجلى فصول هذه الثورة بالضبط؟ لا بدّ من إبداء التواضع قبل أن أدلي بتوقعاتي. حين توليت مجلة "ذا إيكونوميست"، لم تكن لدي أدنى فكرة أن شركة تدعى "تويتر" تأسست قبل 10 أيام فقط، ولكن بحلول انتقالي إلى "بلومبرغ" بعد تسع سنوات، كانت "تويتر" من حيث الأثر قد أصبحت أكبر صحيفة في العالم. لذا، لا بدّ لأي محرر، وأنا منهم، الحذر من تقديم الأمور على أنها حقائق يقينية.
مع ذلك، أعتبر أن غرفة أخبارنا في بلومبرغ تقدم مختبراً جيداً لتقييم المعطيات التي قد تؤشر إلى الطريقة التي ستسير فيها الأمور في المستقبل. ويعود ذلك في جزء منه إلى استخدامنا التقنية أكثر من أي مكان آخر، بما يشمل النسخ الأولية من الذكاء الاصطناعي. إذ نعتمد نوعاً من الأتمتة في أكثر من ثلث الأخبار الـ5000 التي ننتجها يومياً. كما يعزى ذلك إلى أن جمهورنا أقرب إلى نموذج مستهلكي الأخبار المتطلبين المستقبليين. فقراؤنا يتعاملون بملايين الدولارات بناء على ما نكتبه، لهذا فالدقة والحياد مهمان جداً لهم، ولكن الوقت قيّم أيضاً. يكره قراؤنا ومشاهدونا ومستمعونا أن نضيع وقتهم، وكما سنرى، فإن توفير الوقت جزء أساسي ممّا يقدمه الذكاء الاصطناعي.
أدناه مثالان عمّا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام به:
كشف الأنماط وتقديم تلخيصات
المثال الأول هو تقرير كنا قد نشرناه يسلّط الضوء على طريقة تهريب النفط الإيراني، ونقله من سفينة إلى أخرى. نظراً لاتخاذ المتورطين في هذه العمليات كافة التدابير لتجنب اكتشافهم، طوّرنا خوارزمية تحلل صور الأقمار الاصطناعية لتبيان الأوقات التي كانت فيها سفينتان على مقربة من بعضهما. هكذا، رصدنا 2006 حالات مشبوهة لسفن ترسو متجاورة على مدى 566 يوماً كانت السماء فيها صافية بين بداية يناير 2020 و4 أكتوبر 2024، ما مكّن صحفيينا من التحقيق بشأنها.
الذكاء الاصطناعي جيد جداً في التعرّف على الأنماط؛ فهو قادر على تصنيف أكوام من الصور أو الوثائق أو البيانات حين تكون الكميات كبيرة جداً وغير واضحة بالنسبة للإنسان. تقول أماندا كوكس، كبيرة الصحافيين المتخصصين في البيانات لدى بلومبرغ، إن أفضل توصيف للنماذج اللغوية الضخمة هو أنها أشبه بـ "عدد لا متناهي من المتدربين". صحيح أنه لا يمكن دائماً الوثوق بالنتائج التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، لكن، مثل المتدربين البشر، تتحسن الآلة يوماً بعد يوم، حيث ستتطور من مستوى ذكاء الأطفال في 2020 إلى مستوى أقرب لطلاب درجة الدكتوراه، مع التحديثات المقبلة لـ "تشات جي بي تي" وأخواته، أقله على صعيد بعض المهام المحددة.
يحب معظم الصحفيين الذكاء الاصطناعي حين يساعدهم على أمور من قبيل كشف عمليات تهريب النفط الإيراني، فمن السهل التسويق للصحافة الاستقصائية داخل غرفة الأخبار. ولكن إقناعهم بالمثال الثاني أصعب قليلاً. خلال الأشهر الماضية، بدأنا باختبار إعداد ملخصات بالذكاء الاصطناعي لبعض القصص الطويلة على "بلومبرغ ترمينال".
يقرأ البرنامج القصة ويستخلص ثلاث نقاط رئيسية، وقد لقيت هذه الخدمة إعجاب الزبائن بما أنها تتيح لهم الاطلاع سريعاً على موضوع أي مقالة. لكن الصحفيين مرتابون بشأنها، فهم يخشون أن يكتفي الناس بقراءة الملخص بدل التقرير الكامل. وبصراحة، نعم، قد يكتفي القارئ بالملخص. ولكن هل كنت لتفضل أن يضيّع وقته في المرور سريعاً على فقرات موضوع لا يهمه؟ برأيي، هذه الملخصات تساعد القارئ بحال استخدمها بشكل صحيح، كما أنها توفر وقت المحررين.
إذاً، بالاستناد إلى مختبرنا، ما الذي أعتقد أنه سيحدث في عصر الذكاء الاصطناعي، أدناه 8 توقعات:
أولاً، الذكاء الاصطناعي سيغير طبيعة عمل الصحفيين أكثر من أنه سيحلّ مكانهم
لنأخذ مثالاً بسيطاً، هو تغطية إعلانات أرباح الشركات. حين انضممت إلى بلومبرغ، كان لدينا فريق من الصحفيين الذين يطبعون بسرعة، يُعرف بفريق "سبيد" (speed). كانوا يصيغون العناوين السريعة، على أمل أن نسبق أقرب منافسينا ببضع ثوان. ثمّ ظهرت الأتمتة، أي أجهزة كمبيوتر قادرة على مسح كامل بيان صحفي صادر عن شركة في ظرف جزء من الثانية. خشي البعض من فقدان وظائفهم، لكن سرعان ما تبين أن الآلات تحتاج إلى البشر. أولاً، لتوجيهها نحو ما يجب أن تبحث عنه، مثل أن عدد هواتف "أيفون" المباعة في الصين قد يكون أهمّ لتحديد سعر سهم "أبل" من الدخل الفعلي. وثانياً، لتفسير الأحداث غير المتوقعة، مثلاً إذا كانت لاستقالة رئيس تنفيذي دلالة مهمة أم لا.
ما زلنا نوظف عدد الأشخاص نفسه تقريباً لتغطية أخبار الأرباح، ولكن عدد الشركات التي نغطي أرباحها وعمق التغطية، ارتفعا بشكل كبير. بإمكاني القول حتى إن العمل أصبح أمتع، فلم يعد يقتصر على الطباعة السريعة، بل يتطلب أيضاً إدراك الأمور المهمة.
يمكن أن يحدث الأمر ذاته مع الذكاء الاصطناعي، بحيث يتيح مضاعفة حجم المحتوى الذي ننتجه. على سبيل المثال، قد يكون المكتب الإخباري منشغلاً جداً، وليس لديه الوقت الكافي لتقديم شرح حول سقوط بشار الأسد في سوريا. لكن ماذا لو أمكنك استخدام خوارزمية تحلل أربع قصص إخبارية عن الأحداث الجارية؟ ستحصل في غضون ثوان على مسودة أولية جاهزة يمكن لأحد الصحفيين العمل عليها.
يمكن أيضاً مضاعفة حجم المحتوى من خلال الترجمة الآلية، التي تسهم في إيصال عدد أكبر من القصص الإخبارية إلى جمهور أوسع، وتمكّن الصحفيين في المؤسسات العالمية من الكتابة بلغتهم الأم.
ثانياً، الأخبار العاجلة ستبقى ذات أهمية عظمى ولكن لفترات أقصر
لا تظهر الأخبار أي بوادر على تراجع قيمتها، في وقت أصبحت التحولات السياسية تضاهي التحولات الاقتصادية أهمية. ففي كلّ مرة نكشف عن تغير في السياسات في واشنطن أو باريس أو بكين، نرى أسواق العملات تتفاعل على الفور. لكن الأهم هو أن الزمن الذي تظل فيه هذه الأحداث تصنّف كـ"خبر" يتقلص باستمرار.
فيما خصّ الإعلانات الكبرى التي تصدر في موعد محدد، مثلاً تلك المتعلقة بالتوظيف في الولايات المتحدة، لطالما كان السباق على نشر الخبر بفارق بضعة أعشار من الثانية، وغالباً ما نتسابق مع صناديق التحوط التي تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها من أجل قراءة الأرقام بسرعة تضاهي سرعتنا. بالنسبة للأخبار حول أحداث غير متوقعة، مثل عملية استحواذ أو استقالة رئيس تنفيذي، فمن الأصعب قياس تأثيرها. لكن انطلاقاً من تقدير شخصي غير علمي، أرى أن الزمن الذي تحتاجه هذه الأخبار لتحريك الأسعار تقلص خلال فترة عملي في بلومبرغ من عدة ثوان إلى أجزاء من الثانية.
سيسرّع الذكاء الاصطناعي هذه العملية أكثر، ويجعلها أكثر شمولية. سيعتمد الكثير على طريقة إبرام الاتفاقات حول حقوق النشر، ولكن الاحتمال الأرجح أن كميات متزايدة من الأخبار ستعالج فوراً من خلال آلات مثل "تشات جي بي تي" التي تدرس أكثر من سوق واحدة، وتضاف إلى ما يعرف بالمعرفة العامة الفورية. وستكون بمتناول الجميع، أو أقله بمتناول مجموعة أوسع من الناس.
:
ثالثاً، العمل الصحفي سيحافظ على أهميته
ترتكز معظم الأمور التي ذكرتها حتى الآن إلى الحاجة إلى التقارير الإخبارية. فجودة الملخص الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي مرتبطة بجودة الخبر الذي يعتمد عليه، ويبقى الإنسان أساسياً من أجل الحصول على الخبر. فالآلة لا تستطيع إقناع وزير في الحكومة بإخبارها أن رئيس الوزراء استقال لتوّه، ولا يمكنها دعوة رئيس تنفيذي إلى العشاء، ولا كتابة مقال أصلي أو إقناع شخص بأن يقرّ بأمر ما خلال مقابلة على الهواء.
الأهم من ذلك، أن غرف الأخبار ستظل بحاجة إلى صحفيين ميدانيين، خاصة في عالم لم يعد يمكن فيه الافتراض أن دولاً ناشئة مثل إندونيسيا أو الهند ستتبع النموذج الغربي للحرية. ومع محاولات دول عديدة التضييق على الصحافة، ستظل بحاجة إلى أناس لديهم شبكة علاقات واسعة.
التغيير الأكبر قد يطال عمل المحرر أكثر من الصحفي
إن جزأنا معظم مهام مسؤولي التحرير إلى مجموعات من المهارات. نبدأ من إدارة فريق من الصحفيين. لن يفاجئك تفاخري بأن غرف الأخبار ستظلّ بحاجة إلى أشخاص مثلي. يلي ذلك اختيار القصص، أعتقد أن هذه المهارة ستظل مناطة بالبشر إلى حد كبير، رغم أننا في بلومبرغ نستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل لتوجيهنا نحو بعض القصص (مثل تنبيهنا عندما يقفز سعر سهم ما أو عندما يثار نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي حول انفجار ما).
لكن بمجرد تسليم الخبر، وفي مرحلة تعديل الكلمات على الشاشات، أعتقد أنك ستلاحظ أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستضطلع بدور أكبر، سواء في ترتيب المسودات أو إعادة كتابتها، أو التأكد من الحقائق وغيرها من المهام. لا أتحدث عن كفاءة تحرير من المستوى الذي تراه في مجلة "نيويوركر" مثلاً، لكن في الواقع كثير من التقارير الإخبارية لها قوالب.
خذ على سبيل المثال تقريراً رياضياً عن مباراة كرة قدم. بعد خمس سنوات من الآن، يمكن أن ترسل صحفية بريطانية تقريرها عن مباراة في "استاد كينغ باور" إلى محررها في لندن. في غضون ثانية، ستتلقى هي والمحرر نسخة معدلة من التقرير، يتضمن تدقيقاً في الأخطاء.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اقتصاد الشرق مع Bloomberg