في مفاجأة أربكت الأسواق وأذهلت المراقبين، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية موحّدة وشاملة على جميع الدول، في خطوة جاءت على عكس التوقعات التي رجّحت سابقاً سيناريو متدرجاً يشمل دولاً أو قطاعات معينة.
القرار جاء كالصاعقة، ليس فقط في توقيته، بل في شموليته وحدّته، ما أدى إلى ارتباك فوري في الأسواق المالية، وفتح الباب أمام أزمة اقتصادية جديدة ذات طابع تضخمي، لكن مختلف تماماً عن موجات التضخم التي عرفناها مؤخراً.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
فالرسوم الجمركية، رغم أنها قرار تجاري بالدرجة الأولى، فإنها تمس جوهر الحياة الاقتصادية، لأنها ترفع تكلفة السلع المستوردة، وتجبر المنتجين المحليين على رفع أسعارهم، والمشكلة أن هذه الزيادة في الأسعار لا يقابلها زيادة في الطلب أو في الدخل، بل بالعكس، القوة الشرائية للمستهلك ستتآكل من جديد، في وقت لم يتعافَ فيه بعد من آثار الموجة التضخمية التي ضربت العالم قبل ثلاثة أعوام.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); }); المنتجون بطبيعة الحال سيحاولون تمرير هذه الزيادة في التكاليف إلى المستهلك، لكن الأمر هنا يعتمد على ما يُعرف بـ«مرونة الطلب».
ففي السلع الأساسية كالدواء والغذاء، يمكن تمرير جزء من التكاليف لأن المستهلك لا يستطيع الاستغناء عنها، أما في السلع الكمالية، والتكنولوجيا، والسيارات، فإن الوضع مختلف تماماً؛ فالمستهلك قادر على تأجيل الشراء، أو اختيار بديل أرخص، أو التوقف تماماً عن الإنفاق، وهذا ما ينعكس بشكل مباشر على أرباح الشركات.
التقديرات تشير إلى أن أرباح قطاع التكنولوجيا والسلع الكمالية والسلع الفاخرة قد تتراجع بما بين 30% إلى 40%، نتيجة تراجع المبيعات وعدم القدرة الكاملة على تمرير التكاليف.
أما قطاعات السيارات والتجزئة، فهي معرضة لتراجع أرباح يقترب من 20%، نتيجة طبيعة الطلب المرن نسبياً على منتجاتها.
هذه التراجعات الكبيرة في الربحية بدأت تدفع بأسواق الأسهم إلى الانخفاض، قطاعات التكنولوجيا والاستهلاك الكمالي تتصدر الخسائر، وليس من المستبعد أن نشهد تراجعاً قد يصل إلى 30% في مؤشرات مثل ناسداك المركب، خصوصاً إذا استمرت حالة عدم اليقين وغياب الاستجابة السياسية أو النقدية المناسبة.
في هذا السياق، من الضروري توضيح نقطة اقتصادية محورية:
ما نعيشه هو تضخم ناتج عن جانب العرض، وليس عن جانب الطلب.
التضخم الناتج عن الطلب يحدث عندما يزداد إنفاق المستهلكين، فترتفع الأسعار بفعل زيادة الطلب، أما في حالتنا هذه، فالطلب يتراجع، والمستهلك يضعف، لكن الأسعار ترتفع بسبب ارتفاع التكاليف الجمركية وتكاليف الاستيراد، وهذا ما يُعرف بـ«تضخم المعروض»، أو Cost-Push Inflation.
وهنا تكمن المشكلة الكبرى:
السياسات النقدية التقليدية، وعلى رأسها رفع أسعار الفائدة، لا تُجدي في مواجهة هذا النوع من التضخم.
بل إن رفع الفائدة قد يؤدي إلى تعميق الركود، لأنه يخنق الاستهلاك أكثر، دون أن ينجح في خفض الأسعار.
ببساطة، الفيدرالي الأميركي يبدو ضعيفاً أمام هذا النوع من الأزمات!
فأدواته غير فعالة، ومجال حركته ضيق، والخيار الأقرب للمنطق هو تثبيت أسعار الفائدة لفترة طويلة خلال عام 2025، وربما اللجوء إلى خفض تدريجي محدود فقط إذا تراجعت مؤشرات الاستهلاك بشكل حاد، أي خفض قوي أو سريع قد يعيد إشعال التضخم الناتج عن الطلب، وهو ما يحاول الفيدرالي تفاديه بشدة.
لكن وسط هذا المشهد المعقد، هناك دائماً رابح وخاسر:
الخاسر الأكبر دون شك هو المستهلك، فتكلفة معيشته سترتفع، وقدرته الشرائية ستتآكل من جديد، في وقت لم يلتقط فيه أنفاسه بعد من موجة التضخم السابقة.
وسرعان ما سيبدأ الحديث مجدداً عن رفع الأجور، لكن هذا النوع من التحركات لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل يستغرق شهوراً من التفاوض والتطبيق، ما يعني أن الضرر على المستهلك سيبقى مستمراً طوال عام 2025 على الأقل.
فأثر الرسوم الجمركية يبدأ بالظهور خلال ثلاثة أشهر من التطبيق، ويصل إلى ذروته خلال عام كامل، ما يعني أن سنة كاملة من الضغط التضخمي تنتظر المستهلكين.
أما الرابح المؤقت فقد تكون الخزانة الأميركية، إذ ستشهد زيادة كبيرة في إيراداتها نتيجة تحصيل الرسوم الجمركية.
وبما أن حجم الواردات الأميركية السنوية يصل إلى 4.1 تريليون دولار، فإن فرض رسوم بنسبة 20% قد يرفع الإيرادات الحكومية إلى ما بين 750 ملياراً وتريليون دولار.
لكن حتى هذا الربح ليس مضموناً بالكامل، لأن زيادة الرسوم ستؤدي إلى تراجع في حجم الاستيراد نفسه، ما قد يقلّص من الإيرادات على المدى المتوسط والبعيد.
في النهاية، ما بدأ كقرار سياسي مفاجئ، يتحول بسرعة إلى أزمة اقتصادية عميقة، تُعيد التضخم إلى الواجهة، لكن هذه المرة من باب مختلف، وأكثر تعقيداً.
الأسواق تحت الضغط، والسياسات النقدية محدودة الأثر، والمستهلك الحلقة الأضعف
فهل نحن أمام أزمة عابرة؟ أم بداية فصل اقتصادي جديد أكثر اضطراباً؟
الأيام القادمة فقط هي من ستمنحنا الإجابة.
هذه ليست فقط استجابة للأزمة، بل خطوة استراتيجية لتسريع التحول، وتعزيز المرونة، وخلق نموذج اقتصادي سعودي قادر على الصمود والنمو، في وجه أي اضطرابات عالمية قادمة.
هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية