منذ إنشاء مجموعة دول «بريكس» رسمياً في عام 2009، وبعد توسّعها الملحوظ في 2023 لتضمّ دولاً جديدة، تزايدت التوقعات والتحليلات التي تتنبأ بنهاية وشيكة للأحادية القطبية العالمية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. إلا أنّ تقييماً موضوعياً ودقيقاً لإمكانات واشنطن وما تمارسه منذ عقود على الساحة الدولية، بما في ذلك اندفاعتها الأخيرة نحو حرب تجارية شاملة، يكشف صورة مختلفة، ويعطي انطباعاً بأن كل هذه التوقعات/التمنيات، قد لا تكون سوى أضغاث أحلام.
يد واشنطن تصل إلى كل مكان
على مدى السنوات الأخيرة التي أعقبت الإعلان الرسمي عن إنشاء «بريكس» في 16 يونيو 2009، لم تتعرض الهيمنة الأميركية لأي انتكاسة فعلية على الساحة العالمية. على العكس من ذلك، أثبتت التطورات العالمية تفرّد واشنطن بامتلاك «اليد الطولى» التي تصل إلى أي مكان في العالم، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر وغير معلن.
الأمثلة على ذلك تكاد لا تُحصى: من دعم مظاهرات هونغ كونغ ضد الصين في 2019-2020، إلى دعم تايوان وتعزيز قدراتها الدفاعية في وجه بكين، مروراً بالاحتجاجات الروسية عام 2021 وما قبله، ودعم المعارضة الفنزويلية بزعامة خوان غوايدو عام 2019، وصولاً إلى الحرب الروسية الأوكرانية، كلها أحداث تؤكد مدى تشعّب النفوذ الأميركي عالمياً، بالإضافة طبعاً إلى الضغوط التي تمارسها واشنطن على حلفائها للتصدي لتوسّع نفوذ هذه الدولة أو تلك، ومنها على سبيل المثال الضغوط الهادفة للحد من نفوذ شركة «هواوي» الصينية في مجال شبكات الجيل الخامس (5G) والبنية التحتية للاتصالات، وكذلك سلاح العقوبات الاقتصادية الذي تشهره واشنطن في وجه كل من يخالف أو يعارض مشيئتها، من أفراد وكيانات وحكومات، في كل بقاع الأرض.
محاولة ترسيخ الهيمنة الأميركية
أما اليوم، فيبدو أن هناك منحى تصعيدياً أكثر حدةً وشمولية لترسيخ هذه الهيمنة، وهو ما يُعبّر عنه على الأقل فرض إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مطلع أبريل الجاري رسوماً جمركية على واردات بلاده من 185 دولة، في سلسلة من القرارات أقل ما يُقال عنها إنها حملت نبرة تحدٍّ لكل من يحاول أن يعرقل إنفاذ «مشيئة» واشنطن ورؤيتها لمنظومة العلاقات السياسية والتجارية العالمية.
بعيداً عن التداعيات الآنية لهذه الرسوم وانعكاساتها السلبية على أسواق الأسهم العالمية التي خسرت تريليونات الدولارات من قيمتها خلال أيام فقط، فإن التأثيرات بعيدة المدى هي ما يجب التركيز عليه. فالتوجهات الحمائية الأميركية الجديدة لن تقتصر تأثيراتها على خطط «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (Make America Great Again)، وهو شعار الحملة الانتخابية للرئيس ترامب في 2016 و2024، بل ستمتد لتشمل ما يمكن اعتباره «إعادة تشكيل» للاقتصاد العالمي ككل، بما في ذلك أقرب المنافسين للاقتصاد الأميركي، الصين.
كيف تؤثر رسوم ترامب على اقتصاد الصين؟
يمكن للرسوم الجمركية المعلن عنها أو المقترحة، أن تؤثر سلباً في ثاني أكبر اقتصاد عالمي بطرق عدة، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، الأمر الذي من شأنه أن يفاقم التحديات القائمة التي تواجهها الصين. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى ما يلي:
عائدات التصدير: تؤدي الرسوم الجمركية المرتفعة إلى زيادة أسعار السلع الصينية في السوق الأميركية، الأمر الذي يؤدي بالتالي إلى انخفاض الطلب عليها. وبما أن الولايات المتحدة تعتبر أحد أكبر الشركاء التجاريين للصين (تستحوذ على نحو 16-17% من إجمالي الصادرات بحسب أرقام إدارة الجمارك الصينية)، فإن أي انخفاض في حجم الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة يعني خسائر بالمليارات لقطاعات التصدير الرئيسة في الصين، مثل الإلكترونيات والآلات والمنسوجات والسلع الاستهلاكية.
سلاسل التوريد: غالبية الشركات الصينية، خصوصاً الكبرى منها، منخرطة بعمق في سلاسل التوريد العالمية، وبالتالي، فإن الرسوم الجمركية من شأنها أن تدفع الشركات الأميركية إلى نقل إنتاجها والحصول على مكوّنات من دول أخرى مثل المكسيك والهند، وهو ما قد يؤدي بالتبعية إلى تآكل قدرات القاعدة الصناعية الضخمة التي تتمتع بها الصين.
الاستثمار الأجنبي: لا شك في أن الحرب التجارية تفاقم حالة عدم اليقين الجيوسياسي والتجاري، وهو ما سيقلل على الأرجح من الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين. كما أن احتمال أن تسمح الصين بانخفاض قيمة عملتها اليوان كردّ على هذه الرسوم للمحافظة على القدرة التنافسية لصادراتها، سيؤدي إلى تدفقات رأسمالية خارجة، وإلى ضغوط في الأسواق المالية قد تزعزع استقرار الاقتصاد الصيني.
حظر صادرات التكنولوجيا: بالإضافة إلى الرسوم الجمركية، تواصل واشنطن تشديد القيود على نقل التكنولوجيا ومبيعات الرقائق الإلكترونية إلى الصين، كتلك القيود التي تواجهها شركة «هواوي»، وهو ما يعني بالتالي الحدّ من قدرة بكين على الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة التي تحتاجها لدعم أهدافها في النمو والابتكار.
تفاقم الديون المحلية: مع كل هذه الضغوط، قد لا تجد بكين مفراً من إطلاق تدابير تحفيزية لقطاعاتها المختلفة مع زيادة الإنفاق على البنية التحتية، وهو ما من شأنه أن يفاقم ديون الحكومات المحلية، ويزيد الضغوط على الاقتصاد المتباطئ فعلاً؛ بسبب أزمة سوق العقارات والبطالة وغيرهما.
«بريكس» في مواجهة الهيمنة الأميركية
في ظل هذا المشهد المعقّد، يمكن القول إن الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة ستحدث على الأرجح تغييرات كبيرة في استراتيجيات الصين التصنيعية والتصديرية، إن لم تتسبب في إعادة تشكيل الاقتصاد الصيني برمته. وإن كانت سياسات ترامب التجارية قادرة على إحداث مثل هذا التأثير في الاقتصاد الصيني، فإن الأثر قد يكون مضاعفاً في الاقتصادات الأخرى الأقل حجماً.
لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل حقيقة أن مجموعة «بريكس» تظل إلى حد كبير قادرة على إحداث نوع من التوازن وكسر الهيمنة الأميركية، إن هي تحركت كمجموعة متضامنة لا كدول منفردة. فهذه المجموعة تمثل كتلة اقتصادية وسياسية ذات ثقل متزايد، خصوصاً بعد توسيع عضويتها في 2023 لتشمل قوى نفطية واقتصادات ناشئة إضافية، حيث باتت تضم دولاً تمتلك معاً أكثر من 40% من سكان العالم، وحصة 45.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحسب ما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتدى أعمال «بريكس» في مدينة قازان الروسية في أكتوبر 2024.
كما أن المجموعة تحتكر عدداً كبيراً من الموارد الطبيعية الحيوية، وعلى رأسها النفط والغاز والمعادن النادرة، فضلاً عن امتلاك بعض دولها قدرات تكنولوجية وعسكرية متنامية، وأسواقاً ضخمة يمكن أن تُستخدم كورقة ضغط أو تفاوض في إعادة تشكيل التوازنات العالمية.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس