في تحرّك دبلوماسي لافت يعكس تحولات متسارعة في السياسة الخارجية الأوروبية، يزور رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الصين هذا الأسبوع، للقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ، في خطوة تهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين، ومناقشة سبل التعامل مع التحديات التي تفرضها العلاقة غير المستقرة مع الولايات المتحدة.
ووفق تقرير لوكالة «بلومبرغ»، تعد زيارة سانشيز، المقررة يوم الجمعة، الأولى من نوعها لزعيم أوروبي إلى الصين منذ فرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب رسوما جمركية على عدد من دول العالم، مما أحدث هزة في النظام التجاري العالمي.
وفي ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية وتزايد الضبابية الاقتصادية، ترى مدريد في بكين شريكًا محتملاً لتحقيق التوازن في علاقاتها الخارجية.
شريك أوروبي مفضل للصين
من المرتقب أن تشهد الزيارة توقيع عدد من الاتفاقيات في مجالات الأدوية والمنتجات الزراعية والمعدات الطبية. ويرى مراقبون أن إسبانيا تسعى من خلال هذه الزيارة إلى ترسيخ مكانتها كشريك مفضل للصين داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصًا في وقت تتراجع فيه الثقة بواشنطن كمحور ارتكاز استراتيجي.
وكان سانشيز قد انتقد العام الماضي الرسوم الجمركية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على السيارات الكهربائية الصينية.
ومنذ ذلك الحين، تمكن من جذب استثمارات بمليارات اليوروهات شملت مجالات إنتاج البطاريات والطاقة المتجددة ومصانع للسيارات الكهربائية، وهو ما تعوّل مدريد على استثماره في توسيع التعاون مع بكين في الزيارة الحالية.
الأولوية للشراكة
بحسب ما نقلته وكالة «بلومبرغ» عن مصادر مطلعة، فإن إسبانيا، والاتحاد الأوروبي بشكل عام، ينظران إلى الصين بوصفها شريكًا ومنافسًا وخصمًا في آنٍ واحد. إلا أن مدريد تركز في المرحلة الحالية على تعزيز جانب الشراكة، وهو ما تُظهره كثافة التواصل بين الطرفين.
وتمثل زيارة سانشيز المرتقبة ثالث زيارة له إلى الصين خلال عامين، بعد محطتين سابقتين، ما يعكس من وجهة نظر الحكومة الإسبانية رغبة بكين في تعميق العلاقات مع مدريد.
ويُعد لقائه المرتقب مع الرئيس شي، ثالث لقاء مباشر بين الزعيمين، في إشارة رمزية قوية إلى أهمية العلاقة المتنامية.
استقلالية أوروبية عن واشنطن
فيما تشير مصادر دبلوماسية إلى أن سانشيز يسعى من خلال هذه الخطوة إلى دفع أوروبا نحو صياغة علاقة مع بكين تكون مستقلة عن السياسات الأميركية، خصوصًا في ظل تزايد الدعوات في واشنطن إلى فصل اقتصادي واستراتيجي عن الصين.
وهذا التوجه، بحسب محللين، لا يلقى اعتراضًا صينيًا، بل على العكس، تنظر إليه بكين باعتباره تغييرًا مرحبًا به في «عقلية» أوروبا. فقد أشار مقال افتتاحي نُشر في صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الحكومية إلى أن زيارة سانشيز تمثل جزءًا من تحول ذهني في الاتحاد الأوروبي ينبغي تشجيعه، بعيدًا عن إرث إدارة ترامب.
ومع تصاعد التيار المعاكس في أوروبا، يظل سانشيز ملتزمًا بتوسيع العلاقات التجارية مع بكين، مدفوعًا برؤية سياسية ترى أن التقدم في مجالات الاقتصاد الأخضر والتحول التكنولوجي لا يمكن أن يتحقق دون شراكات دولية متينة.
ورغم هذه التحركات، يبقى من غير الواضح إلى أي مدى يمكن لسانشيز التأثير في مجمل سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الصين، خصوصًا في ظل تشدد المواقف الأوروبية بعد جائحة «كوفيد-19»، ورفض الرئيس شي إدانة الحرب الروسية على أوكرانيا.
التحول الأخضر والأمن الاقتصادي
تقول كريستينا مونجي، أستاذة السياسة في جامعة كومبلوتنسي بمدريد، إن سانشيز يسعى إلى ترسيخ مكانته كزعيم للديمقراطية الاجتماعية الحديثة، داعيًا إلى دور نشط للدولة في الاقتصاد، وتبنّي سياسات بيئية متقدمة، وتعددية دولية فعّالة.
ووفقًا لمصدر مطلع تحدث لـ«بلومبرغ»، فإن الحكومة الإسبانية ترى في التحول الأخضر عاملًا داعمًا للأمن الاقتصادي، ما يجعل تعزيز العلاقات مع الصين ضرورة استراتيجية.
وفي هذا السياق، شهدت إسبانيا تطورًا لافتًا في حجم الاستثمارات الصينية، حيث افتتحت شركة «شيري» مصنعًا للسيارات الكهربائية قرب برشلونة، فيما اشترت شركة «تشاينا ثري غورجز» إحدى أكبر مزارع الطاقة الشمسية في البلاد. كما تعتزم شركة «كاتل» بناء مصنع بقيمة 4.1 مليار يورو بالتعاون مع «ستيلانتس».
بوابة إلى إفريقيا وأميركا اللاتينية
ووفق تقرير «بلومبرغ» ترى مدريد أن تعميق الشراكة مع بكين قد يمنحها مزيدًا من النفوذ في مناطق حيوية كإفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث تتزايد أهمية تلك المناطق ضمن أولويات السياسة الخارجية الإسبانية، خاصة في ضوء التغيرات في أنماط الهجرة نحو جزر الكناري عبر البحر الأبيض المتوسط.
وبينما تستمر العلاقات الأوروبية-الصينية في التشكّل وسط صراعات جيوسياسية، تبدو إسبانيا بقيادة سانشيز عازمة على لعب دور محوري في تحديد ملامح هذه العلاقة، في محاولة للجمع بين المصالح الاقتصادية والاستقلال السياسي عن الهيمنة الأميركية.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس
