ترجمة: علاء الدين أبو زينة قلما شهد فضاء الفكر العالمي أواخر القرن العشرين سجالًا فكريًا ترك أثرًا عميقًا وممتدًا كالذي دار بين إدوارد سعيد ومايكل والزر. لم تكن المواجهة بينهما خلافًا عابرًا في الرؤى النظرية أو التقديرات السياسية، بل شكّلت في جوهرها تصادمًا بين رؤيتين أخلاقيتين متعارضتين للعالم: رؤية تستقي وعيها من التجربة المعاشة للاستعمار، وأخرى تتكئ على تقاليد الفلسفة السياسية الليبرالية الغربية.
كما أظهر إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني البارز ومؤسس نظرية ما بعد الاستعمار، في أعماله، لم تكن المعرفة الغربية يومًا بريئة، بل كانت متشابكة عضوياً مع إرث الإمبراطورية والاستعلاء الثقافي. وكشف سعيد في عمله الرائد "الاستشراق"، كيف استُخدمت المعرفة لتكريس الهيمنة، معيدًا تشكيل مفهوم المثقف في العالم الحديث بوصفه شاهدًا وناقدًا، لا خادمًا للسلطة. وعلى هذا الأساس، لم يرَ في المشاريع الليبرالية، حتى تلك المتدثرة بأخلاقية خطابها، سوى امتدادٍ لأنماط السيطرة ذاتها التي مارستها الإمبراطوريات في السابق.
في المقابل، برز مايكل والزر بوصفه أحد ألمع المدافعين عما يُعرف بـ"الصهيونية الليبرالية"، وهي محاولة للجمع بين التجربة التاريخية لليهود بوصفهم ضحايا للاضطهاد، وبين القيم الليبرالية من ديمقراطية وحقوق إنسان وتعددية. في كتبه المؤثرة، مثل "الحروب العادلة والظالمة" و"مجالات العدالة"، دافع والزر عن إمكانية التوفيق بين الانتماء القومي والالتزام الأخلاقي، مؤمنًا بأن الحروب قد تكون عادلة أحيانًا، وأن تحرر الشعوب -بما في ذلك إقامة دولة يهودية ديمقراطية في إسرائيل- يمكن أن يكون مشروعًا أخلاقيًا مشروعًا.
غير أن سعيد رأى في أطروحات والزر تواطؤًا مموَّهًا مع القوة. وفي رده الشهير على مقال والزر "عالم سعيد"، اتهم سعيد والتزر بالتغافل عن البنى العميقة التي يُعاد إنتاج الهيمنة من خلالها، معتبرًا أن الخطاب الليبرالي، حين يُوظف للدفاع عن مشروع استيطاني، لا يختلف في جوهره عن الخطاب الإمبريالي القديم -حتى وإن بدا أكثر نعومة وتسامحًا في ظاهره. وبذلك، فإن "الصهيونية الليبرالية"، من وجهة نظر سعيد، ليست مصالحة بين قيم متناقضة، بل تبريرًا أخلاقيًا لمشروع كولونيالي مستمر.
لم يكن هذا السجال مجرد خلاف في الفلسفة أو الرؤية، بل جسّد انقسامًا جوهريًا بين فكر ما بعد الاستعمار الذي يسعى إلى تفكيك أنماط السلطة المتوارثة، وبين الليبرالية الغربية التي تعجز -على الرغم من حسن نواياها أحيانًا- عن الخروج من فلك المركزية الأوروبية وتاريخها الإمبراطوري. وفي حين رأى والزر أن الأخلاق السياسية تستوجب التدخل أحيانًا لحماية الضعفاء، كان سعيد يرى أن هذا التدخل لا يكون بريئًا أبدًا، وأنه غالبًا ما يُوظف لخدمة ميزان قوى منحاز لصالح المهيمِن.
طرح السجال سؤالاً محوريًا لم يُحسم حتى الآن: هل يمكن حقًا التوفيق بين قيم الليبرالية، التي تنادي بالتعددية والمساواة والحرية، وبين مشروع قومي إثني قائم على الامتيازات الدينية والتاريخية، كما هو الحال في "الصهيونية الليبرالية"؟ وهل يمكن للمثقف أن يدّعي النزاهة الأخلاقية وهو يبرر نظامًا ينطوي على تمييز بنيوي وعنف كولونيالي متواصل؟
لم تكن القضية، إذن، مجرد اختلاف في المواقف، بل صراعًا بين رؤيتين للعالم: رؤية تُشكك في الخطابات الأخلاقية حين ترتبط بالقوة والسيطرة، وأخرى تسعى إلى تبرير مشروع سياسي قائم على ما تعتبره "استثناءً أخلاقيًا" مستمدًا من معاناة تاريخية سابقة. هذه المواجهة الفكرية، التي حدثت في نهاية القرن العشرين، لم تفقد راهنيتها؛ بل إن ظلها الطويل ما يزال يمتد إلى أسئلة اليوم: من يملك الحق في تعريف العدالة؟ من الذي يحق له الحديث باسم القيم الكونية؟ وهل يمكن للنظام الليبرالي أن يتجاوز تاريخه الاستعماري حقًا أم أنه يظل أسيرًا له، مهما تغيرت لغته وتحوّلت أدواته؟
في هذه الأوقات التي تشهد تجدد المواجهات حول فلسطين، وتُطرح فيها الأسئلة الصعبة حول حدود الخطاب الليبرالي الغربي في مواجهة الاحتلال والعنصرية، تعود هذه المناظرة لتُذكّرنا بأن الأفكار ليست مجرد أدوات تحليل، بل أسلحة سياسية ذات أثر طويل الأمد. وبينما يزداد المشهد العالمي تعقيدًا، وتصبح المواقف أكثر استقطابًا، تظل المواجهة بين سعيد ووالزر نقطة مرجعية مركزية في فهم التوتر القائم بين القيم المعلنة والحقائق المفروضة، بين الخطاب والسلطة، وبين النقد والتواطؤ.
إنها الظل الطويل لذلك السجال الفكري: مواجهة غير محسومة بين رؤيتين متنافرتين للأخلاق والسياسة، تُذكّرنا بأن معركة الأفكار لا تقل أهمية عن معركة المصالح، وأن الأسئلة التي طرحها سعيد ووالزر لم تُغلق بعد، وما تزال تحكم الكثير من معارك الحاضر.
- علاء الدين أبو زينة
نادر أندراوس* - (مجلة نيو لاينز) 2025/3/28
* * *
ثمة فجوة هائلة بين السمعة العامة للراحل إدوارد سعيد والكيفية التي رأى بها نفسه فعليًا. ومن السهل فهم السبب. يرتبط اسمه بالعديد من الخلافات الفكرية والسياسية المهمة في عصرنا، بما في ذلك فلسطين، والاستشراق، ونظرية ما بعد الاستعمار وسياسات الهوية. ويتم تذكُّر سعيد بعدد لا يحصى من التدخلات، والاهتمامات والتحالفات: كمتحدث باسم القضية الفلسطينية، ومنظِّر للنقد الأدبي "ما بعد الحداثي"، وعاشقٍ للثقافة الغربية البرجوازية الرفيعة والإنسانوية، وناشطٍ ثوري ووريثٍ لفرانز فانون.
كانت بعض هذه الأدوار في حالة توتر مع بعضها بعضا، وغالبًا ما تمت مقاربتها كشخصيات أو مجالات منفصلة من حياته وعمله. ولكن، إذا كان ثمة خط جامع يصل أبعاده المتعددة معًا، وإذا كان ثمة منهج متسق في عمل سعيد، فقد كان ما أسماه هو نفسه "النقد العلماني".
يمكننا أن نفهم بأفضل صورة ما قصده سعيد بـ"النقد العلماني" من خلال معاودة زيارة مواجهته الفكرية مع الفيلسوف السياسي مايكل والزر Michael Walzer. وكان الذي بدأ الاشتباك النقدي بينهما هو كتاب والزر "الخروج والثورة" Exodus and Revolution (1985). وثمة فائدتان لفحص هذا الجدل بالذات. الأولى هي أنه على الرغم من أنه يبدو متعلقًا بشيء مقصور على موضوع نخبوي -"العهد القديم"- فإنه سرعان ما يتضح أنه يتعلق بالعديد من الموضوعات الأخرى: ثورات العالم الثالث، وسوسيولوجيا المثقفين، ومصير اليسار، والمناهج التأويلية في ما بين هذه الموضوعات.
لكن الخلاف بين المثقفَين المؤثرَين تحدَّث أيضًا عن قضية ما تزال حية بإلحاح حتى اليوم. كان والزر من بين أبرز ممثلي "الصهيونية الليبرالية"، التي تواجه في الوقت الراهن أخطر أزمة وجودية في تاريخها. وتتيح مراجعة نقاش سعيد - والزر فرصة للنظر في مصير "الصهيونية الليبرالية" اليوم من خلال إعادة تقييم حججها وتجسيداتها السابقة. وبالنظر إليه الآن، يبدو موقف والزر أقل "ليبرالية" بكثير (ناهيك عن "علمانية" أو "عالمية" أو "إنسانية") مما تستدعي سمعته، في حين يبدو سعيد أكثر نزاهة وإخلاصًا لالتزاماته العلمانية والأممية.
في 21 أيلول (سبتمبر) 2024، كتب والزر مقالًا افتتاحيًا في صحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان "قنابل أجهزة النداء الإسرائيلية لا مكان لها في حرب عادلة" Israel s Pager Bombs Have No Place in a Just War، منتقدا تكتيك "تفجيرات البيجر" الإسرائيلية ضد "حزب الله" في لبنان، التي أدت إلى سقوط العديد من الضحايا المدنيين. وفي منتصف المقال، يوضح والزر: "مع ذلك، دعونا نضع تمييزًا هنا. إن إدانة عمل حربي ليس نفس إدانة الحرب نفسها"، التي هي عادلة في رأيه، لأن أعداء إسرائيل مدفوعون بـ"هدف غير أخلاقي وغير عادل"، مما يجعل رد إسرائيل -في غزة ولبنان- "مبررا". وبذلك يهتم والزر فقط بسلوك الحرب، ويصر على أنه، باستثناء هجوم أجهزة الاستدعاء، كان رد إسرائيل "محدودًا" و"مسيطرًا عليه".
تتعارض حجة والزر هنا مع المبادئ التي كان قد حددها هو نفسه في كتاب العام 1977 الأساسي "الحروب العادلة والظالمة" Just and Unjust Wars، وكان أحد هذه المبادئ هو التناسب - من غير الواضح على الإطلاق كيف أن رد إسرائيل متناسب مع الخطر الذي واجهته. لكن هذا التمرين في الفحص الفلسفي يُفصح عن معضلة، وربما حتى أزمة، داخل "الصهيونية الليبرالية". كيف يمكن الحفاظ على الالتزامات الليبرالية في سياق تصبح فيه الطبيعة العرقية والدينية للدولة الإسرائيلية أكثر وضوحًا باطراد؟ من المدهش كيف ينسب والزر فضائل إنسانية إلى الدولة الإسرائيلية، كما لو أن قادتها يتشاركون مبادئه الأخلاقية. ما الذي يمكن أن يفسر عدم التناسق بين دفاع "الصهيونية الليبرالية" عن عالمية الأخلاق وارتباطها العميق بدولة عرقية معينة تنتهك باستمرار تلك المبادئ بالذات؟
بحلول الوقت الذي صدر فيه كتابه "الخروج والثورة" Exodus and Revolution في العام 1985، كان والزر قد أسس نفسه مسبقًا كأهم مؤيد فكري لـ"الصهيونية الليبرالية" في كل من الأوساط الأكاديمية والمجال العام الأميركيين. وكان والزر، المولود في العام 1935، مثالاً نموذجيًا لجيل المثقفين التقدميين الذين شكلتهم الحركة ضد حرب فيتنام -ولكنهم لعبوا لاحقا دورًا في شرعنة السياسات الخارجية الأميركية مثل التدخل العسكري في أفغانستان. ويمكن وصف نظرة هذا الجيل بأنها ديمقراطية اجتماعية بشكل عام، والتي تفضّل ما اعتبروه تدخلات عسكرية خيِّرة في الخارج ومعادية لإرث الحركات المناهضة للاستعمار وحركات العالم الثالث. ثمة استمرارية معينة بين جيل والزر والجيل الأكبر سنًا من "ليبراليي الحرب الباردة". ولكن هناك أيضًا انقطاع، يعود إلى حقيقتين: أولاً، تماهى جيل والزر مع "اليسار الجديد" في الستينيات (خاصة فيما يتعلق بالحقوق المدنية، والنسوية، والحركة ضد حرب فيتنام)، وثانيًا، اتخذت.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الغد الأردنية