بعد عام على سقوط رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد، دخل اقتصاد البلاد مرحلة حساسة تتأرجح بين وعود التعافي وفرص إعادة البناء من جهة، وبين تركة ثقيلة خلفتها سنوات الحرب والعقوبات والانهيار المؤسساتي من جهة أخرى. ورغم بروز إشارات محدودة على تحسن تدريجي في بعض القطاعات، فإن الصورة الاقتصادية العامة لا تزال بعيدة عن الاستقرار، وسط فجوات عميقة في الإنتاج، وتراجع القدرة الشرائية، واتساع رقعة الفقر.الاقتصاد السوري اليوممنذ تشيكل الحكومة السورية الجديدة، كانت خططها متمثلة بمحاور رئيسية عدة، أبرزها:السعي الجاد لرفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا.إصدار عملة جديدة ورفع الرواتب بنسبة 400% لدعم القدرة الشرائية للمواطنين.
جذب الاستثمارات الخارجية لإعادة الإعمار خصوصامن رجال الأعمال السوريين المقيمين في الخارج.
تعديل النظم والقوانين الاستثمارية وإعادة هيكلة المؤسسات الحكومية.وتكشف تقديرات البنك الدولي حجم التحدي القائم، فالناتج المحلي انكمش بما بين 50 و65% مقارنة بعام 2010، ليعود بالاقتصاد إلى مستوى يقارب منتصف التسعينات، فيما تقدر كلفة إعادة الإعمار بنحو 216 مليار دولار، أي ما يعادل 10 أضعاف الناتج الحالي. بالإضافة إلى ذلك يحتاج أكثر من 16.7 مليون سوري إلى شكل من أشكال المساعدة، بينما يعيش نحو 90% من السكان تحت خط الفقر، في وقت لا يتوقع فيه أن يتجاوز النمو الاقتصادي نسبة 1% خلال عام 2025. وأعلنت وزارة الخزانة الأميركية في العاشر من نوفمبر تمديد تعليق ما يسمى بعقوبات قيصر ضد سوريا لمدة 180 يوما، لكن رفعها بالكامل يتطلب موافقة الكونغرس.يؤكد الباحث الاقتصادي محمد السلوم في حديث إلى منصة "المشهد" أن "الاقتصاد السوري يمر اليوم بمرحلة تطوير مؤسساتي وإداري هو الأكثر حساسية منذ عقود"، مشيراً إلى "أن التحولات التي رافقت العام الأول بعد التغيير لم تصل إلى مستوى التحوّل الهيكلي، لكنها نجحت في تثبيت إطار أولي يمكن البناء عليه في المرحلة المقبلة".ويشرح السلوم أن الاقتصاد السوري اليوم أنهى المرحلة الأكثر فوضوية، ودخل مرحلة إعادة الهيكلة الحقيقية وإن كانت بطيئة، على حد تعبيره.ووفقا للسلوم فحصيلة العام الأول تتجلى في:وضع سياسة نقدية واقعية حدّت من تدهور العملة.استعادة جزئية للنشاط الزراعي والخدمي.بدء عملية إصلاح مالي وإداري.تحسين آليات الرقابة ومكافحة الفساد.ضبط أولي لحركة السوق الداخلية.ويضيف السلوم أن "العام الثاني سيكون اختباراً حاسماً، فإذا تم توحيد الإدارة المالية والعسكرية، وأطلقت عملية استبدال العملة، وأعيد إدماج الموارد الوطنية ضمن الدورة الاقتصادية، فإن سوريا ستكون أمام بداية نهضة اقتصادية فعلية وليست افتراضية".من جهته، يقول الخبير الاقتصادي د. عبد الرحمن محمد خلال حديثه إلى "المشهد" إنه "بعد عام من سقوط الأسد، يواجه الاقتصاد السوري تحديات هائلة نتيجة سنوات من الصراع والدمار. في عام 2025، لا يزال الوضع الاقتصادي في سوريا متدهورا، حيث يعاني 90% من السكان من الفقر، ويعتمد الكثيرون على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة".ويلخص محمد الوضع الاقتصادي الحالي بعدد من النقاط:
البنية التحتية المدمرة: تضررت البنية التحتية بشكل كبير خلال الحرب، مما يجعل إعادة الإعمار مهمة صعبة. العديد من المناطق لا تزال مليئة بالأنقاض، مما يعيق جهود إعادة البناء.التحول الاقتصادي: الحكومة الجديدة، تسعى إلى إعادة هيكلة الاقتصاد من نموذج مركزي إلى اقتصاد سوق حر.هذا يتضمن خصخصة بعض المؤسسات الحكومية وجذب الاستثمارات الأجنبية، خصوصا من دول الخليج.التحديات المالية: رغم وجود خطط لإعادة بناء الاقتصاد، إلا أن البلاد تواجه نقصا حادا في التمويل.الأمن الغذائي: يعاني حوالي 16 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، مما يزيد من الضغوط على الحكومة الجديدة لتوفير الاحتياجات الأساسية.إجراءات فعلية قامت بها الحكومة خلال 2025ويرى محمد أن الإجراءات الفعلية التي قامت فيها الحكومة السورية خلال هذا العام تتلخص بـ:إصدار عملة جديدة: أعلنت الحكومة عن نيتها إصدار أوراق نقدية جديدة مع حذف صفرين من العملة الحالية. هذا الإجراء يهدف إلى تسهيل التعاملات النقدية اليومية وتحسين السيولة في السوق.إلغاء خطة تبديل العملة: في خطوة مفاجئة، ألغى مصرف سوريا المركزي جميع الإجراءات المتعلقة بعملية تبديل العملة التي كانت مقررة سابقًا، مما يعكس عدم الاستقرار في السياسات المالية.تحسين سعر الصرف: سعى المصرف المركزي إلى تحسين سعر صرف الليرة من خلال ضبط الكتلة النقدية وعدم تمويل عجز الموازنة، مما قد يساعد في استقرار السوق.استعادة الثقة: حذر الخبراء من أن حذف الأصفار وحده لن يحل المشكلة الاقتصادية، بل يجب أن يكون مصحوبا بإصلاحات اقتصادية شاملة لتعزيز الثقة في العملة.التعاون الدولي: هناك جهود لتعزيز التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، بما في ذلك تحديث القوانين المتعلقة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مما قد يسهل عودة البنوك العالمية إلى السوق السورية.سعر الليرة مقابل الدولارمع مطلع عام 2025، شهدت الليرة السورية مرحلة من الاستقرار النسبي بعد سنوات طويلة من الانهيارات المتتالية، حيث انخفض سعر الدولار في السوق السوداء خلال شهري فبراير ومارس إلى أقل من 10,000 ليرة، بينما رفع مصرف سوريا المركزي السعر الرسمي للدولار إلى أكثر من 11,000 ليرة.وكان سعر صرف الدولار قد تجاوز منتصف عام 2024 حاجز 15,000 ليرة في السوق السوداء، نتيجة موجة تضخم حادة ونقص في المعروض من العملة الأجنبية. لكن منذ ديسمبر 2025، بدأ السعر يتراجع تدريجياً، ليستقر في نطاق 9,500 إلى 10,000 ليرة في بعض المدن، فيما أقدم المصرف المركزي على رفع السعر الرسمي تدريجياً حتى بلغ 11,000 ليرة في شهري مايو ويونيو.وحول ذلك يوضح محمد أن "سعر صرف الليرة السورية شهد تقلبات ملحوظة، لكنه استقر نسبيا بعد الانهيار الذي شهدته العملة في السنوات السابقة، في نهاية عام 2025، أظهرت الليرة تحسنا طفيفا، حيث أغلقت عند حوالي 12,000 ليرة مقابل الدولار، مما يعكس بعض الاستقرار النسبي. ومع ذلك، لا يزال هناك قلق بشأن استدامة هذا الاستقرار في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية الحالية".بدوره يبين السلوم أن هذا المسار "يعكس طبيعة المرحلة الانتقالية، حيث لا تزال السياسة النقدية تعيد بناء أدواتها بعد سنوات من فقدان السيطرة. الفريق الاقتصادي الجديد المكوّن من وزير الاقتصاد والصناعة نضال الشعار، ووزير المالية محمد يسر برنية، وحاكم المصرف المركزي عبد القادر حصرية اعتمد أسلوباً أكثر محافظة وواقعية، ما ساعد على الحد من التذبذب الحاد وتأسيس إطار أولي للاستقرار المالي".تعافٍ نسبي في قطاعات مختلفةوبحسب السلوم، شهدت القطاعات الاقتصادية أداءً غير متجانس خلال العام الماضي:في الزراعة، تحقق تحسن نسبي نتيجة عودة جزء من الأراضي إلى الإنتاج وتعافي سلاسل القيمة القصيرة، لكن غياب السيطرة على موارد الجزيرة السورية حدّ من التوسع.
في الصناعة، بدأ النشاط بالعودة تدريجياً في حلب وريف دمشق وبعض مناطق شمال البلاد، غير أن انعدام الاستقرار الطاقي ونقص التمويل ما زالا يفرضان سقفاً منخفضاً للنمو.
أما قطاع الخدمات، فقد كان الأكثر نشاطاً، مستفيداً من تحسن الحركة التجارية الداخلية وتراجع معدلات الانكماش الاجتماعي.
عملية إعادة الإعمار لا تزال في مراحلها الأولية، بسبب غياب الضمانات السياسية والأمنية الكافية إضافة إلى استمرار تعقيدات التحويلات المالية، وتردد المؤسسات الدولية في تقديم تمويل مباشر قبل التوصل إلى تسوية سياسية مكتملة.العملة السورية الجديدةوكشف حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، عن خطوات مالية ونقدية وصفت بأنها الأكثر جرأة منذ سنوات، تشمل إصدار عملة سورية جديدة مكوّنة من 8 فئات ورقية بعد حذف صفرين منها، ضمن خطة تهدف إلى تعزيز الثقة بالليرة ودعم تعافي الاقتصاد بعد أكثر من 14 عاماً من الصراع.مشيرا إلى أن "العملة الجديدة ستكون إشارة ورمزا لهذا التحرر المالي".وذكر حصرية أن سوريا ستنهي 7 عقود من تمويل البنك المركزي لعجز موازنة الحكومة، وستستعيد الثقة في المالية العامة وإدارة المصرف المركزي.أبدى عدد من الخبراء الاقتصاديين تحفظهم على خطوة الحكومة السورية بحذف الأصفار من العملة المحلية، معتبرين أنها تفتقر إلى برنامج اقتصادي متكامل يواكبها، خصوصا في ظل استمرار الأوضاع الأمنية غير المستقرة في البلاد.في المقابل، يرى آخرون أن بإمكان الحكومة اللجوء إلى خيار أقل كلفة يتمثل في إصدار عملة نقدية بفئة كبيرة، ما يسهل عمليات التداول في الأسواق ويخفف الأعباء عن المواطنين.ويرى السلوم أن هذا الإجراء قد يحمل مكاسب مزدوجة:من الناحية الاقتصادية، سيساعد في ضبط الكتلة النقدية، وتعزيز الشفافية المصرفية، وإعادة تنظيم دورة المدفوعاتأما من الناحية الرمزية، فمن شأنه إنهاء الارتباط البصري والنفسي بإرث النظام السابق، وإعطاء إشارة قوية ببدء مرحلة مؤسساتية جديدة.انقسامات سياسية تعيق التعافيويلفت السلوم أن "الاقتصاد السوري لا يمكن تقييمه بمعزل عن المشهد السياسي"، مشيرا إلى 3 ملفات مركزية لا تزال تمنع تشكّل سوق سورية موحدة:عدم التوصل إلى اتفاق نهائي مع قوات سوريا الديمقراطية، ما يبقي معظم الموارد النفطية والجزء الأكبر من إنتاج القمح والشعير خارج الدورة الاقتصادية الوطنية.ملف السويداء واستمرار وجود مجموعات مسلّحة بقيادة حكمت الهجري تتبنى خطاباً انفصالياً، وتتمتع بارتباطات إقليمية معقدة.غياب هذا الاندماج العسكري الكامل بين الجيش السوري والقوى المحلية ، هو يعيق توحيد النظام الضريبي والجمركي والمالي.وبرأي السلوم أن "حسم هذه الملفات يمكن أن يغيّر المشهد الاقتصادي خلال أشهر لا سنوات، إذ سيفتح الوصول إلى مصادر الطاقة والغذاء، ويعيد ضبط حركة التجارة، ويمنح المستثمرين الداخليين والخارجيين إشارة ثقة حاسمة".(المشهد )۔
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد
