استيقظ السوريون في صباح 8 ديسمبر 2024 على واقع جديد، قاصدين الشوارع للاحتفال بسقوط حكم عائلة الأسد الذي انهار بين عشية وضحاها، بعد 5 عقود من السيطرة المركزية والبيروقراطية الأمنية، وأكثر من عقد من الحرب الأهلية الطاحنة التي حصدت أرواح مئات الآلاف من الضحايا، وتسببت في دمار يحتاج إصلاحه لمئات مليارات الدولارات.أتاح سقوط الأسد أمام السوريين فرصة إعادة بناء الدولة بعد مرحلة انتقالية أساسها الحوار الوطني الشامل. لكن، رغم هذه الفرص، تواجه الحكومة الانتقالية اليوم، بقيادة أحمد الشرع، تحديات كبيرة على الصعيدين الأمني والسياسي والاجتماعي، وسط إرث ثقيل من الانقسامات والحرب الأهلية.فرص تاريخية لإعادة البناءأزال سقوط الأسد القيود التي فرضتها العقود الطويلة من الحكم الفردي والبيروقراطية الأمنية المشددة. تكافح سوريا التي أرعبها الديكتاتور لتتعافى، لكنها تواجه إرثا قاتما من المقابر الجماعية، والمدن المحطمة، والعائلات التي تطاردها الذكريات المؤلمة للمفقودين والمتوفين.
بدأت حكومة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع العمل على إعادة تشكيل المؤسسات الأساسية للدولة، وإعادة صياغة دستور مؤقت، مع التأكيد على الرغبة في تجاوز تجربة الماضي وبناء دولة قادرة على تلبية مطالب المواطنين.
وفتحت المرحلة الانتقالية الباب أمام دبلوماسية أكثر مرونة، فبدأت الحكومة محادثات مع دول الخليج وتركيا وروسيا، لتوقيع اتفاقيات اقتصادية واستثمارية كبيرة، ساعية للحصول على الدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي اللازم للمضي قدماً في خططها.
الكثير من السوريين متفائلون بشأن مستقبلهم. حيث أقامت الحكومة الجديدة روابط مع القوى العالمية الكبرى لإنهاء عزلتها الدولية. في ذروة هذه الحملة، أصبح الشرع أول رئيس سوري يزور المكتب البيضاوي في نوفمبر 2025.
استقرار سوريا يُعد محوريا لرؤية دول الخليج في التنويع الاقتصادي ودمج الشرق الأوسط اقتصاديًا مع أوروبا عبر بلاد الشام. وقدّمت دول الخليج دعمًا ماليًا لتغطية رواتب القطاع العام، وساعد دعمهم لقطاع الطاقة في تحسين الكهرباء، رغم استمرار ارتفاع الأسعار. كما قدمت المساعدات الإنسانية الطارئة لسد الثغرات.إنجازات كبيرة
ومع إطلاق حرية نسبية للإعلام المحلي والدولي، ساهم ذلك في تعزيز الشفافية وتوثيق الانتهاكات السابقة، كما أعاد الأمل في دور المجتمع المدني السوري، في ظل حراك وإطلاق لمبادرات محلية، على أمل تعزيز دور المواطنين في صياغة المستقبل السياسي للبلاد.
تسعى دمشق اليوم إلى تحسّن الأوضاع الأمنية، ليتسنى لها جذب الاستثمارات الخارجية سواء من قبل المغتربين أو المستثمرين الأجانب، مع التركيز على محاولة إعادة تشغيل مشاريع البنية التحتية الأساسية، وعودة بعض الخدمات إلى المدن الرئيسية، التي تساهم في إضافة ديناميكيات اقتصادية جديدة كنقطة انطلاق لتعافي الاقتصاد المتضرر من سنوات الحرب الطويلة.
كما مثّل إطلاق اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية خطوة مهمة نحو محاسبة مرتكبي العنف الطائفي والسياسي، مع وضع آليات لتعويض المتضررين، وفي حال تطبيق هذه الخطوة بجدية، فإنها يمكن أن تعزز الثقة بين المواطنين والدولة الجديدة، وتفتح المجال أمام مصالحة وطنية حقيقية.
ويعتبر المحلل السياسي السوري عبد الله الحمد أن "الإنجازات التي حققتها حكومة الشرع كبيرة، سواء على المستوى الداخلي في مجالات الاقتصاد والبنية الاجتماعية وإدارة مؤسسات الدولة، أو الخارجية بتوقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع منظمات المجتمع المدني، وعلى مستوى الاستثمار وإعادة الإعمار وزيادة الأجور، وضمن إطار زمني ضيّق ووسط تحديات كبيرة".
ويرى الحمد، في حديثه إلى منصة "المشهد"، أن "هذه القفزات الكبيرة على المستوى الداخلي تزامنت مع نجاحات خارجية نوعية وثورة في العلاقات الدبلوماسية السورية".
يقول الحمد: "يكفي أن نتحدث بأن سوريا تحولت، باعتراف العالم، من دولة راعية للإرهاب إلى دولة مكافحة له. هذا يعكس الإنجازات والتحولات الكبيرة التي مرت بها سوريا، والجولات المكوكية التي قام بها وزير الخارجية السوري من شرق العالم إلى غربه، وحضور مؤتمرات وندوات وتمثيل سوريا خير تمثيل، بالإضافة إلى زيارات الرئيس الشرع إلى الدول العربية والدول الغربية والإقليمية، وزيارة واشنطن وزيارة الأمم المتحدة".
عقبات تنتظر الحلول
لكن، على الرغم من جهود الحكومة الانتقالية للسيطرة على الوضع، إلا أن الانفلات الأمني ما زال يهدد المناطق الساخنة، خصوصًا الساحل والسويداء. فالعقود الطويلة من الحكم الطائفي والتمييز بين المكونات المختلفة تركت إرثًا عميقًا من عدم الثقة بين الجماعات السورية. ورغم سقوط الأسد، لم تُنشأ آليات فعالة للمصالحة الوطنية، ما يجعل أي انتكاسة أمنية أو سياسية محتملة بمثابة تهديد مباشر لاستقرار الدولة الناشئة.
وتواجه دمشق اليوم صعوبة في دمج الفصائل المسلحة في مؤسسات الدولة العسكرية، خصوصًا أن بعض هذه الفصائل تحتفظ بولاءات محلية ومالية مستقلة، كما أن ضعف التدريب والهيكلة العسكرية يقلل من فعالية العمليات الأمنية، ويزيد احتمال حدوث صدامات بين الفصائل أو مع المدنيين، ما يعقّد مهمة إعادة الأمن والاستقرار.
فالانفلات الأمني يعزز من الشعور بالإقصاء بين الأقليات، مثل العلويين والدروز، كما أن ملف الأكراد في الشمال الشرقي يمثل تحديًا سياسيًا جديدًا. فعدم وجود سياسات حماية واضحة لهذه المجموعات يهدد وحدة الدولة ويزيد من احتمالات النزاعات المحلية.
بنى الأسد الأب أسرة حكمت سوريا بقبضة حديدية، واستخدم القمع الجماعي والدولة البوليسية لتثبيت أركان سلطتها. لكن الواقع الجديد لا يخلو من الشكوك. وبالنظر إلى تاريخ "هيئة تحرير الشام"، وانتهاكاتها السابقة، يأتي عامل الإيديولوجيا الدينية ليزيد من مخاوف الأقليات والعلمانيين في البلاد.مشكلات الجنوب
الأقليات، وخصوصا العلويون، تحملوا تبعات العنف بعد سقوط الأسد، وبرز السعي للانتقام كأبرز دوافع الهجمات التي تحدث بين الحين والآخر، كما أن الإقصاء الجماعي لمئات آلاف عناصر الجيش والأمن السابقين خلق جيشًا من الرجال المسلحين والمدربين عسكريًا، الذين أصبحوا عاطلين عن العمل، ليشكّلوا بيئة خصبة لتجنيد المتمردين.
وفي الجنوب، تصاعدت التوترات مع الطائفة الدرزية في السويداء، التي حاولت الحفاظ على حكم ذاتي جزئي خلال الحرب الأهلية. بعد سقوط الأسد، استُبعدت قيادات درزية وازنة من الحوارات الوطنية، وعُيّن مسؤولون موالون للحكومة في المناصب الإدارية، بينما جرى تهميش الشخصيات المحلية المؤثرة، ما غذّى شعور الدروز بالتهديد الوجودي.
يرى الإعلامي والكاتب السوري جوان سوز أن "الإدارة الجديدة لم تستوفِ شروط المشاركة السياسية المنصوص عليها، وأخفقت بشكل واضح في التعامل مع ملف الأقليات".
يقول سوز في حديثه إلى "المشهد" إن "الأحداث الدامية في الساحل خلال مارس الماضي، إضافة إلى وقائع جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا وأحداث السويداء، يعكس فشلًا في إدارة ملف الأقليات التي باتت تنظر إلى قسد باعتبارها الجهة القادرة على فرض نموذج دستوري مدني يحمي حقوقها، مقابل شعور متزايد بأن الحكومة الحالية ذات طابع أحادي ولا تمثل جميع السوريين".
القرار الأممي إلى الواجهة مجددا
من جانبه، يؤكد الناشط السياسي السوري كرم سليمان في حديثه لـ"المشهد" أن "السلطة حاولت إظهار الصراع وكأنه مواجهة بين أكثرية وأقليات، ما ولّد شعورًا عميقًا بانعدام الثقة.. هذا النهج جعل الأقليات تفقد ثقتها تمامًا بحياد الحكومة".
ويضيف سليمان أن "المشكلة تفاقمت بسبب انتشار خطابات الكراهية الصادرة من البعض، وعجز الحكومة عن ضبطها". ويؤكد أنه "لا يتهم الحكومة مباشرة بإنتاج هذا الخطاب"، لكنه يشير إلى أنها "منحت مساحة لشخصيات ذات تاريخ متطرف، وسمحت لجمهورها بإطلاق خطاب كراهية ضد الأقليات من دون أي رقابة، ما جعل عملية دمج الأقليات في مشهد وطني جامع أكثر صعوبة".
وبرأي سليمان، تكمن جذور الأزمة في غياب الحياة السياسية. فالحكومة كما يقول "ألغت القوى المدنية والسياسية، وتعاملت مع المكوّنات على أساس طائفي، مع إعطاء أدوار كبيرة لرجال الدين، الأمر الذي عمّق الانقسام الداخلي وحوّل الصراع إلى مواجهة بين رجال دين في مختلف المناطق، باستثناء المنطقة الشرقية الخاضعة لقوات قسد". ويشير في هذا السياق إلى "خلافات بين شخصيات دينية، مثل الشيخ حكمت الهجري والشيخ غزال وأحمد الشرع، معتبرًا أنها ساهمت في تعزيز الاستقطاب الطائفي".
وعن الحلول الممكنة، يشير سليمان إلى عدد من النقاط:
الأحداث الأخيرة في الساحل والسويداء جعلت الوصول إلى مخارج سهلة أمرًا شبه مستحيل. هناك ضرورة لاتخاذ الحكومة خطوات جريئة تشمل محاسبة المتورطين في هذه الأحداث بطريقة شفافة وحقيقية، وليس عبر محاكمات شكلية على غرار ما حصل في حلب.إشراف دولي على مسار العدالة، عبر لجان مستقلة تتابع ملفات العدالة الانتقالية، والعودة إلى روح القرار 2254، بما يضمن تقاسم السلطة وطرح خيارات للحكم اللامركزي أو الفيدرالي، وصولًا إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، بدلًا من بقاء القرار بيد طرف واحد يحدد شكل البلاد خلال المرحلة الانتقالية وما بعدها.الانتخابات التي أُجريت كانت شكلية فيما ازدادت تعقيدات العدالة الانتقالية بعد مجازر الساحل والسويداء. ولذلك، المطلوب اليوم هو مسار واضح تؤطره هيئة حكم انتقالية بإشراف قومي على المرحلة المقبلة.(المشهد)۔
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد
