مجلس المنافسة يفضح اختلالات المطاحن الكبرى

كشف مجلس المنافسة، في رأيه الأخير حول شروط المنافسة داخل سوق المطاحن، عن صورة دقيقة تُبرز حجم الاختلالات البنيوية التي تراكمت عبر سنوات نتيجة سياسة الدعم العمومي الموجه لقطاع الحبوب والدقيق. فرغم أهمية هذا الدعم في تعزيز الأمن الغذائي وضمان توافر القمح بأسعار مستقرة، فإن المجلس يؤكد أن المنظومة الحالية انحرفت عن أهدافها الأصلية وأصبحت تُنتج تأثيرات غير متوازنة تُضعف التنافس وتمنح امتيازات غير مستحقة لعدد محدود من المجموعات الصناعية الكبرى.

ويشير التقرير إلى أن بعض الشركات استفادت من حماية غير مباشرة لتكاليفها، ما جعل انخفاض أسعار الدقيق مرتبطاً أساساً بالدعم العمومي وليس بالأداء الإنتاجي أو تحسين الجودة. هذه الوضعية أنتجت نمطاً من السلوك داخل السوق يتمحور حول الاستفادة القصوى من الدعم بدل الاستثمار في رفع الإنتاجية، وهو ما قلّص، حسب المجلس، من حوافز الابتكار والتحديث لدى الفاعلين.

ويبرز التقرير أن الدولة تتحمل جزءاً كبيراً من التكاليف الناتجة عن ضعف المنافسة وهيمنة بعض الفاعلين على سلسلة الإنتاج، سواء عبر دعم الأسعار أو عبر تغطية الرسوم والحواجز الحمائية المفروضة على الاستيراد. كما أن تعدد الوسطاء داخل سلسلة التوزيع، وغياب مراقبة فعّالة لمسار الدقيق المدعم، يرفعان التكلفة النهائية دون أن ينعكس ذلك على المستهلك أو على جودة الخدمة المقدمة في السوق.

ومن بين الملاحظات المركزية للمجلس أن المجموعات الكبرى المندمجة عمودياً أي تلك التي تجمع بين التوريد والتخزين والتحويل والتوزيع تُعد الأكثر استفادة من منظومة الدعم. فهذه الشركات تتمتع ببنية قوية تسمح لها باستغلال الامتيازات المالية والتنظيمية التي يوفرها النظام الحالي، ما خلق فجوة واسعة بينها وبين المطاحن الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد أساساً على نشاط الطحن فقط، وتعاني من ضعف قدرتها على الولوج إلى الدعم بنفس السلاسة والفعالية.

ويؤكد المجلس أن التفاوت في الولوج إلى الدعم أدى إلى ترسيخ مواقع بعض الشركات داخل السوق بشكل لا يعكس أداءها الاقتصادي الفعلي، بل يُعبّر عن حماية غير مباشرة توفرها منظومة الإعانات. هذا الوضع يعزز تركّز السوق، ويُصعّب دخول فاعلين جدد، ويقلّص من الدينامية التنافسية التي يحتاجها القطاع.

ورغم اعتراف المجلس بأن الدعم العمومي الموجه للقمح اللين والدقيق الوطني المدعم لعب دوراً محورياً في مواجهة تقلبات الأسعار العالمية وضمان استقرار سعر الخبز، فإنه يشير إلى أن هذا النظام أعاد تشكيل دينامية الأسعار بطريقة أضعفت آليات المنافسة الطبيعية. فالسعر النهائي للدقيق لم يعد مرتبطاً بتكاليف الإنتاج الحقيقية أو بكفاءة الفاعلين، بل بمنسوب الدعم الذي تتحمله الدولة.

ويكشف التقرير أيضاً أن آليات الدعم والمقاصة خلقت وضعاً مزدوجاً داخل السوق: فمن جهة ضمنت استقرار سعر الخبز عند حدود 1.20 درهم، ومن جهة أخرى أدت إلى اختلالات واضحة في التنافس، خاصة مع استمرار تثبيت سعر القمح المستورد عند 260 درهماً للقنطار. ويرى المجلس أن هذا التدخل يطمس التمييز الطبيعي بين الشركات على أساس الكفاءة، ويحوّل السوق إلى مساحة شبه جامدة تتحكم فيها الامتيازات أكثر مما تتحكم فيها قواعد التنافس الحر.

كما أن الحفاظ على وفرة الخبز المدعم بين 2019 و2024 لم يمنع ظهور مشكلات بنيوية عميقة، وفق التقرير، أبرزها الهدر الكبير لهذه المادة بسبب ضعف تنظيم الطلب وغياب آليات لتوجيه الدعم نحو الفئات المستحقة. ويُحذّر المجلس من أن استمرار تركيز الدعم على الدقيق فقط، دون باقي المواد الأساسية الداخلة في صناعة الخبز مثل الخميرة والمحروقات وأجور اليد العاملة، يُهدد استدامة آلاف المخابز، ويزيد من الضغوط المالية التي تواجهها.

ويشير المجلس إلى أن الدعم الحالي يسهم كذلك في إضعاف التحفيز على تحسين الإنتاجية داخل المطاحن، حيث تستفيد بعض الشركات من تخفيضات مهمة في تكاليف الاستيراد والتخزين والتحويل، ما يجعلها قادرة على تبني ممارسات تسعير قد تقصي منافسين أصغر حجماً. هذا الوضع، وفق التقرير، يشكل خطراً على دخول فاعلين جدد، وعلى مستقبل التنافسية في القطاع على المدى البعيد.

ويعتبر مجلس المنافسة أن إصلاح منظومة الدعم لم يعد خياراً بل ضرورة ملحّة، مطالباً بإعادة النظر في طريقة توجيه الإعانات، واعتماد مقاربات تدريجية تراعي التوازن بين حماية القدرة الشرائية للمواطن وتعزيز تنافسية القطاع. كما يدعو إلى وضع نظام رقابي أكثر فعالية يضمن تتبّع مسارات الدقيق المدعم، وإلى تجنب التركّز المفرط الذي قد يؤثر مستقبلاً على الأمن الغذائي ومصالح المستهلك.

ويرى المجلس أن الإصلاح الشامل لمنظمة الدعم يتطلب دمج مقاربات جديدة تستحضر الرقمنة، واستهداف الفئات المستحقة بشكل مباشر، وإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمطاحن بما يسمح بنشوء بيئة تنافسية متوازنة. كما يجب، حسب التقرير، تعزيز الشفافية داخل القطاع، ووضع قواعد واضحة تسمح بقياس الأداء الحقيقي للشركات بعيداً عن تأثير الإعانات.

وبينما يؤكد المجلس على أهمية استمرار الدولة في ضمان وفرة المواد الأساسية بأسعار معقولة، فإنه يصر على أن الحفاظ على الأمن الغذائي لا يجب أن يكون على حساب التنافسية، لأن غياب التنافس الحقيقي يضعف الابتكار، ويُلحق ضرراً بالفاعلين الصغار، ويجعل السوق رهينة لعدد محدود من الشركات المهيمنة.

ويخلص التقرير إلى أن الوضع الحالي، رغم ضمانه لاستقرار نسبي في الأسعار، يبقى مكلفاً وغير عادل وغير مستدام، وأن استمرار الاختلالات يهدد توازن القطاع على المدى المتوسط والبعيد، ما يستدعي تدخلاً سريعاً لإعادة هيكلة الدعم وتحرير دينامية السوق بما يخدم المستهلكين والمستثمرين على حد سواء.


هذا المحتوى مقدم من أشطاري 24

إقرأ على الموقع الرسمي


هسبريس منذ 17 ساعة
هسبريس منذ 10 ساعات
Le12.ma منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 21 ساعة
هسبريس منذ 20 ساعة
آش نيوز منذ ساعة
هسبريس منذ 13 ساعة
موقع بالواضح منذ 16 ساعة