لا يسير الدولار الأميركي هذه الأيام على طريق مستقيم، قبل نهاية العام، تنتظره عقبات متتالية قد تعيد رسم خريطة التدفقات المالية العالمية، من واشنطن إلى طوكيو، ومن أسواق السندات إلى الذهب. يلوح اختباران أساسيان في الأفق، الأول سياسي نقدي بامتياز، والثاني قادم من الشرق، وقد يكون تأثيرهما أكبر مما يبدو للوهلة الأولى.
هذا التحليل والنص نقلاً عن بيانات وزارة الخزانة الأميركية، ورويترز، بنك بي أن بي باريبا، والمجموعة المالية آيه بي سي ومحللين اقتصاديين آخرين.
خلفية سريعة.. ماذا حدث قبل ذلك؟ خلال العامين الماضيين، استفاد الدولار من دورة التشديد النقدي التي قادها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، فارتفعت العوائد على السندات الأميركية إلى أعلى مستوياتها منذ أكثر من عقد، ما جذب سيولة ضخمة من الخارج، خاصة من الدول ذات الفائدة المنخفضة. في المقابل، ظل بنك اليابان لفترة طويلة آخر البنوك المركزية الكبرى المتمسكة بالفائدة الصفرية، ما عزز ما يُعرف بتجارة الفائدة أو الكاري تريد.
الاختبار الأول: من سيقود الاحتياطي الفيدرالي؟ يتمثل الحدث الأقرب في الإعلان الرسمي عن اسم الرئيس الجديد للاحتياطي الفيدرالي الأميركي، المتوقع أن يتولى المنصب في النصف الثاني من العام المقبل. تميل الأسواق، ومعها وسائل الإعلام الاقتصادية، إلى ترجيح اختيار شخصية قريبة من البيت الأبيض، وتحديداً من الدائرة الاقتصادية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، نقلاً عن رويترز.
كان ترامب واضحاً في مواقفه السابقة، فهو يفضّل سياسة نقدية داعمة للنمو عبر خفض أسعار الفائدة بوتيرة أسرع، ويبحث عن رئيس للاحتياطي الفيدرالي لا يصطدم بهذه الرؤية. مجرد تأكيد هذا الاتجاه كفيل بأن يدفع الأسواق إلى إعادة تسعير توقعاتها، ليس فقط لأسعار الفائدة، بل لقيمة الدولار نفسه.
باختصار، إذا تأكد المستثمرون أن السياسة النقدية الأميركية تتجه إلى خفض أسرع للفائدة، فإن العائد الحقيقي على الدولار سيتراجع، ما يفتح الباب أمام ضغوط نزولية على العملة الأميركية على المدى المتوسط، مقابل صعود محتمل للأصول التحوطية مثل الذهب والفضة. الاختبار الثاني.. اليابان تغيّر قواعد اللعبة لا يقل الموعد الثاني أهمية، ويأتي في 19 ديسمبر كانون الأول، مع إعلان قرار بنك اليابان المركزي، تشير التوقعات إلى رفع جديد للفائدة، في وقت تتجه فيه معظم البنوك المركزية الكبرى، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي، نحو التيسير النقدي.
لا تتعلق أهمية اليابان هنا فقط بالسياسة النقدية، بل بحجم دورها في تمويل الاقتصاد الأميركي، وفق بيانات وزارة الخزانة الأميركية، تُعد اليابان أكبر دائن خارجي للولايات المتحدة، بحيازات من سندات الخزانة تجاوزت 1.18 تريليون دولار حتى سبتمبر أيلول الماضي. رفع الفائدة في اليابان يعني ببساطة زيادة تكلفة المال الرخيص الذي كان يُستخدم لتمويل الاستثمارات في الولايات المتحدة، وهو ما يضرب في الصميم تجارة الفائدة التي اعتمدت لسنوات على الاقتراض بالين منخفض العائد وتحويله إلى الدولار للاستثمار في السندات والأسهم الأميركية. ما تجارة الفائدة ولماذا تهم الدولار؟ الفكرة في جوهرها بسيط، إذ يقترض المستثمر بعملة فائدتها شبه صفرية، مثل الين الياباني، ثم يحوّل هذه الأموال إلى الدولار ليستثمرها في أصول ذات عائد أعلى، الفارق بين العائدين هو الربح. لكن عندما يرفع بنك اليابان الفائدة، يقل هذا الفارق، وتزداد المخاطر، فتفقد هذه الاستراتيجية جزءاً كبيراً من جاذبيتها. النتيجة المحتملة هي تراجع تدفقات رؤوس الأموال من اليابان إلى الولايات المتحدة، أو على الأقل تباطؤها، مع احتمال عودة جزء منها إلى السوق اليابانية. الصورة الأكبر.. ماذا يعني ذلك للدولار؟ عندما نضع الحدثين معاً، رئيس فيدرالي يميل إلى خفض الفائدة، وبنك يابان يتحرك في الاتجاه المعاكس، تتضح ملامح ضغط مزدوج على الدولار. يتراجع العائد الأميركي، والبدائل تصبح أكثر جاذبية نسبياً، حتى لو بشكل محدود، لا يعني هذا انهيار الدولار، لكنه يشير إلى مرحلة ضعف نسبي، خاصة إذا ترافق ذلك مع استقرار أو تحسن في شهية المخاطرة عالمياً، نقلاً عن المجموعة المالية آيه بي سي.
الدولار لا يسقط، لكنه يُعاد تسعيره، ما يحدث الآن ليس لحظة أزمة، بل لحظة انتقال في ميزان السياسة النقدية العالمية. تسبق الأسواق الأحداث دائماً، وأي إشارة واضحة من واشنطن أو طوكيو قد تكون كافية لتغيير الاتجاهات، ولو تدريجياً.
هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية
