في ظل تحولات اقتصادية وديموغرافية متسارعة تشهدها المنطقة العربية، تبرز أنظمة الضمان الاجتماعي كأحد أكثر الملفات حساسية في معادلة الاستقرار الاجتماعي والمالي. ومع تصاعد معدلات الشيخوخة وارتفاع متوسط الأعمار وتراجع معدلات الخصوبة، تتعرض صناديق التقاعد لضغوط متزايدة، تجعل من الدراسات الاكتوارية أداة مركزية لاستشراف المستقبل بدل الاكتفاء بقراءة أرقام الحاضر.
في هذا السياق، تكشف الدراسة الاكتوارية الحادية عشرة للضمان الاجتماعي الأردني عن ملامح استدامة مالية حالية، تقابلها تحديات هيكلية مرشحة للتوسع خلال العقدين المقبلين، ما لم تُواجَه بإصلاحات تشريعية واستثمارية مدروسة. وتهدف هذه الدراسة الدورية إلى قياس قدرة النظام على الاستمرار في الوفاء بالتزاماته تجاه المشتركين والمتقاعدين على المدى الطويل، استنادًا إلى الإيرادات التأمينية والعوائد الاستثمارية وتراكم الأصول.
صندوق النقد يتوقع نمو الاقتصاد الأردني 3% خلال السنوات المقبلة
التقاعد المبكر.. عبء هيكلي
أبرزت الدراسة الاكتوارية أن التقاعد المبكر يُعد من أخطر التحديات التي تواجه ديمومة النظام التأميني، بعدما تحوّل من خيار استثنائي إلى ظاهرة واسعة الانتشار. فبدء صرف الرواتب التقاعدية في سن مبكرة يرفع كلفة الإنفاق ويزيد عدد سنوات الاستفادة، في وقت لا تقابله زيادة مماثلة في سنوات الاشتراك، وفق بيان لمؤسسة الضمان الاجتماعي.
وتشير المقارنات الدولية إلى أن الأنظمة التي تسجّل نسباً منخفضة من التقاعد المبكر تكون أكثر قدرة على تعزيز الاستدامة المالية. وأوضحت المؤسسة في بيان رسمي وصل «إرم بزنس» أن عدداً كبيراً من دول العالم لا يوفّر أصلاً نظام تقاعد مبكر، بينما تسجّل الدول التي تعتمد أنظمة مشابهة للأردن نسب تقاعد مبكر لا تتجاوز في معظمها 25%.
وبيّنت الدراسة أن نسبة المتقاعدين مبكراً في الأردن ما تزال مرتفعة وتشكل الأغلبية، إذ بلغت 64% من إجمالي المتقاعدين حتى تاريخه، ما يسهم في زيادة الضغط على الموارد التأمينية. وأكد المدير العام للمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، جاد الله الخلايلة، أن إلغاء التقاعد المبكر «أمر مستحيل»، مشدداً على أن أي تعديلات قادمة ستحافظ على حقوق المشتركين والمزايا المقررة لهم وفق القانون النافذ.
علم الأردن يرفرف فوق العاصمة عمّان يوم 11 سبتمبر 2021
نقاط التعادل والاستدامة
وأظهرت نتائج الدراسة أن صناديق التأمينات الاجتماعية تتمتع بوضع مالي جيد جداً في المرحلة الحالية، ولا سيما تأمينات إصابات العمل والأمومة والتعطل عن العمل، ما يعكس متانة البنية التمويلية للنظام وقدرته على الوفاء بالتزاماته دون ضغوط فورية على الأصول.
وحددت الدراسة نقطة التعادل الأولى في عام 2030، حيث تتساوى الإيرادات التأمينية من الاشتراكات مع النفقات التأمينية. ويُنظر إلى ابتعاد هذه النقطة زمنياً على أنه مؤشر إيجابي يمنح النظام هامشاً للتحرك قبل الدخول في مرحلة العجز التشغيلي.
في المقابل، أشارت الدراسة إلى نقطة تعادل ثانية متوقعة في عام 2038، تصبح فيها الإيرادات التأمينية والعوائد الاستثمارية غير كافية لتغطية النفقات السنوية في حال لم يتحسن العائد على الاستثمار، ما يضع سياسات الاستثمار وإدارة المخاطر في صلب معادلة الاستدامة المستقبلية.
وقال الخلايلة إن نقطة التعادل في الدراسة الاكتوارية العاشرة السابقة كانت في عام 2039، موضحاً أن هذه التقديرات مبنية على افتراضات ديموغرافية واستثمارية وتوقعات بتوسيع الشمول. وأضاف أن الدراسات الاكتوارية تقوم على سيناريوهات واحتمالات قد تتأثر بالظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لافتًا إلى أن التفاؤل السابق بتوسيع الشمول لم يتحقق بالكامل بسبب الواقع الاقتصادي.
وكشف الخلايلة أن إجمالي فاتورة التقاعد تبلغ نحو 173 مليون دينار شهرياً، مؤكداً أن المؤسسة تبحث حالياً عن آليات جديدة لشمول العاملين في القطاع غير الرسمي وأنماط العمل غير المرن، بالتعاون مع الجهات الرسمية الأخرى.
مؤشرات إنذار لا حتمية
من جانبه، قال خبير التأمينات والحماية الاجتماعية موسى الصبيحي لـ«إرم بزنس» إن مؤشرات الدراسات الاكتوارية ونقاط التعادل لا تعني حتمية تحققها، بل تُعد أدوات إنذار مبكر تستند إلى افتراضات وسيناريوهات قابلة للتغيير.
وأشار الصبيحي إلى أن تجربة سابقة أظهرت مرونة هذه المؤشرات، إذ توقعت دراسة مبنية على بيانات 2007 بلوغ نقطة التعادل الأولى في عام 2016، إلا أن ذلك لم يحدث نتيجة إدخال إصلاحات وتشريعات حسّنت المركز المالي للنظام.
وأكد أن الإطار التشريعي الحالي يمنع الوصول إلى نقطة التعادل الأولى، متوقعًا استمرار تحقيق فوائض تأمينية لعدة سنوات مقبلة، مع توجه الجهات المعنية إلى إدخال إصلاحات إضافية تُبعد نقاط التعادل زمنيًا وتعزز ديمومة النظام على المدى الطويل.
تأمين الشيخوخة والضغوط الديموغرافية
وعلى الرغم من توصيف تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة بأنه في وضع مالي جيد حاليًا، كشفت الدراسة أن موجودات النظام تقل عن عشرة أضعاف نفقاته التأمينية للسنة العاشرة من تاريخ التقييم، وهو مستوى يُعد إشارة تحذير وفق المعايير الاكتوارية الدولية.
وأرجع الضمان الاجتماعي ارتفاع نفقات هذا التأمين إلى عدة عوامل، أبرزها التقاعد المبكر، والتهرب التأميني، إضافة إلى الضغوط الديموغرافية المتمثلة بارتفاع متوسط الأعمار وتراجع معدلات الخصوبة، ما يؤدي إلى انخفاض أعداد الداخلين إلى سوق العمل وارتفاع عدد من يبلغون سن التقاعد، واختلال التوازن بين فترات الاشتراك وفترات الاستفادة.
الأمتعة الشخصية تقود ارتفاع التضخم في الأردن لـ1.8% في 11شهرا
التهرب التأميني وتوسيع الشمول
وسلّطت الدراسة الضوء على اتساع فجوة الشمول، حيث لا يزال 22.8% من العاملين في سوق العمل الأردني المنظم خارج مظلة الضمان الاجتماعي. وترى المؤسسة أن مكافحة التهرب التأميني وشمول العاملين في القطاع غير المنظم يمثلان أولوية وطنية لتعزيز العدالة الاجتماعية وتقوية القاعدة التمويلية للنظام.
وأكدت مؤسسة الضمان الاجتماعي أن نتائج الدراسة تُظهر الحاجة إلى إجراء تعديلات تشريعية على قانون الضمان، بما يضمن ترحيل نقاط التعادل إلى مدد أطول وتعزيز ديمومة النظام وحماية حقوق الأجيال القادمة.
وشددت على أن أي تعديلات مرتقبة ستراعي المؤمن عليهم ذوي فترات الاشتراك الطويلة، وستناقَش ضمن حوارات وطنية موسعة عبر المجلس الاقتصادي والاجتماعي، بهدف التوصل إلى قانون متوازن يحافظ على الاستدامة المالية، ويحسن أوضاع المتقاعدين ذوي الرواتب المنخفضة، دون المساس بالمزايا المقررة في القانون النافذ.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

