العقوبات البريطانية وإعادة تعريف الصراع في السودان

تحسم الصراعات المسلحة في عالم اليوم عبر مزيج معقد من القوة الميدانية والقدرة على التحكم بسرديتها السياسية والأخلاقية قبل لحظة الحسم، حيث لم تعد السيطرة العسكرية كافية لتأمين موقع الفاعلين في المشهد اللاحق للصراع. ففي زمن تتداخل فيه المعركة العسكرية مع صراع تحديد من يملك حق البقاء في المشهد السياسي، باتت العدالة الدولية أداة لإعادة تعريف من يعد فاعلا مقبولا في المستقبل ومن يدفع مبكرا إلى خانة الإدانة والعزل. من هذا المنطلق لم تعد القرارات القانونية الدولية مجرد توثيق لاحق للانتهاكات بل تدخل استباقي يرسم حدود الممكن سياسيا قبل أن تتبلور التسويات.

في توقيت دقيق وبينما تتصاعد المعارك حول الفاشر وتتوالى التقارير الأممية التي توثق انتهاكات ترتقي إلى جرائم حرب ارتكبتها قوات الدعم السريع، اختارت المملكة المتحدة أن ترسل رسالة لا تحتمل التأويل: العدالة الدولية لن تكون بندا مؤجلا يستدعى في نهاية الصراع بل أداة فاعلة حاضرة منذ الآن. فالعقوبات التي فرضت على قيادات بارزة في قوات الدعم السريع لا يمكن قراءتها بوصفها رد فعل أخلاقيا متأخرا لكنها خطوة محسوبة ضمن مقاربة أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل قواعد المشروعية في السودان قبل أن تتبلور أي تسوية سياسية.

تمثل هذه العقوبات وعلى رأسها استهداف عبد الرحيم دقلو شقيق محمد حمدان دقلو (حميدتي) تحولا نوعيا في تعاطي لندن مع الصراع السوداني. فالمقاربة البريطانية انتقلت بوضوح من موقع المراقبة والتحذير إلى توظيف العدالة الدولية كأداة سياسية ضاغطة في لحظة مفصلية من عمر الصراع، لحظة تتقاطع فيها الوقائع الميدانية مع إعادة تعريف الخطوط الحمراء دوليا. هنا لم تعد العدالة إطارا لاحقا لترتيب ما بعد الحرب بل عنصر فاعل يستخدم لإعادة ضبط سلوك الفاعلين قبل الوصول إلى طاولة التفاوض.

هذا التحول لا يمكن فصله عن إعادة إحياء المقاربة الغربية لملف جرائم دارفور ولا سيما بعد تراكم الأدلة حول الفظائع المرتكبة في الفاشر ومحيطها. تسعى بريطانيا إلى تثبيت سردية قانونية مبكرة تمنع إعادة تدوير هذه الجرائم سياسيا أو تبييضها ضمن صفقات إنهاء الحرب. الرسالة واضحة وحازمة: لن يسمح بتحويل السيطرة العسكرية في الفاشر إلى «انتصار نظيف» يخلو من الكلفة الأخلاقية والقانونية، ولن يكون الصمت الدولي تكرارا لخطايا تاريخية سمحت سابقا بالإفلات من العقاب.

الأهم أن لندن لا تكتفي بالنقد الدبلوماسي أو الخطاب الأخلاقي إنما تعمل على بناء مسار محاسبة دولي متكامل. ما أعلنته وزيرة الخارجية البريطانية عن تقديم دعم فني مباشر لآليات العدالة الدولية واستثمار 1.5 مليون جنيه إسترليني في مشروع «شاهد السودان» لرصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والتحقق منها، يؤكد أن العقوبات ليست خطوة معزولة لكنها جزء من بنية قانونية قيد التأسيس. وبهذا توضع قوات الدعم السريع أمام حساب دولي مسبق يذهب أبعد من تقييد تحركاتها السياسية إلى الحد أيضا من قدرتها على التحول إلى طرف شرعي في أي تسوية قادمة.

في هذا السياق تتقاطع الخطوة البريطانية مع التحول الأمريكي الأخير في الموقف من قوات الدعم السريع، وهو تحول لم يأتِ من فراغ أو من اعتبارات إنسانية مجردة. فإعادة معايرة الموقف الأمريكي جاءت بعد تشكل قناعات أعمق بطبيعة الصراع وخلفياته الإقليمية، وهي قناعات تأثرت بوضوح بالدور السعودي الذي قدم من خلاله سمو ولي العهد قراءة استراتيجية شاملة لطبيعة الأزمة ومآلاتها للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. هذا التقاطع بين واشنطن ولندن يشير إلى.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة مكة

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة مكة

منذ 6 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 6 ساعات
صحيفة الاقتصادية منذ 6 ساعات
صحيفة عكاظ منذ 3 ساعات
صحيفة عاجل منذ 17 ساعة
صحيفة سبق منذ ساعتين
صحيفة الوطن السعودية منذ 17 ساعة
صحيفة سبق منذ 7 ساعات
صحيفة سبق منذ 16 ساعة
صحيفة الشرق الأوسط منذ 10 ساعات