الرصيد التفاوضي في العلاقات الدبلوماسية لا يُصنع عند طاولة المفاوضات ولا يُختزل في لحظة اتفاق أو توقيع، بل هو نتاج تراكم طويل من السلوك السياسي، وذاكرة الدولة، وطريقة إدارتها لعلاقاتها الخارجية عبر الزمن. هو رصيد غير مكتوب، تُراكم فيه الدول مصداقيتها، واتساق مواقفها، وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، كما تُسجَّل فيه أيضًا لحظات التردد أو التناقض. لذلك، فإن قوة الدولة التفاوضية الحقيقية لا تُقاس بحدة خطابها، بل بعمق الثقة التي صنعتها حول سلوكها.
في جوهر هذا الرصيد تقف الثقة بوصفها العنصر الأكثر حساسية واستدامة. فالدولة التي تُعرف بوضوح رؤيتها، وبثبات أولوياتها، وبقدرتها على إدارة الخلاف دون انزلاق إلى القطيعة الدائمة، تمتلك ميزة تفاوضية صامتة. هذه الميزة لا تُمنح، بل تُكتسب عبر الزمن، حين يدرك الآخرون أن التعامل مع هذه الدولة يقوم على قواعد يمكن التنبؤ بها، حتى في لحظات الاختلاف. ومن هنا يصبح الاتساق السياسي، لا المناورة المؤقتة، هو العملة الأعلى قيمة في سوق التفاوض الدولي.
ولا يقل البعد الأخلاقي أهمية عن البعد السياسي في بناء هذا الرصيد. فالدبلوماسية التي تُدار بمنطق الربح اللحظي قد تحقق مكاسب سريعة، لكنها تُفلس إستراتيجيًا على المدى الطويل. أما الدول التي تحترم القانون الدولي، وتتعامل مع الأزمات الإنسانية بمنطق المسؤولية لا التوظيف، وتشارك بفاعلية في المنصات متعددة الأطراف، فإنها تبني صورة تفاوضية تجعل مواقفها مسموعة حتى حين تكون محل خلاف. الرصيد التفاوضي هنا يتحول إلى أصل إستراتيجي غير ملموس، لكنه حاضر في كل مفاوضة جادة.
ضمن هذا الإطار، يمكن قراءة موقف الدبلوماسية السعودية في اتفاق استئناف العلاقات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 2023، بوصفه تجسيدًا عمليًا لفكرة الرصيد التفاوضي، لا كتحول مفاجئ أو تنازل سياسي، بل كنتيجة طبيعية لمسار طويل من إدارة المواقف بحساب دقيق. فالمملكة لم تدخل هذا المسار من موقع اندفاع أو ضعف، بل من موقع دولة راكمت تجربة تفاوضية.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية
