بدأت سموّ الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، قصة بحثها عن ملكة مليحة في كتابها «أخبروهم أنها هنا»، من الإلهام الكامن في حكمة الجبال، أولاً، حكمة الجبال في كلباء، ملاذ طائر الرفراف الأبيض، وأرض شوك أم الغيلان، وهناك تقع على قبر، سيكون أيضاً جزءاً من رحلة البحث الأرضية، والتي سوف تتحول إلى مناجاة، وابتهال ونسيج نوراني، تلك الرحلة المعكوسة إلى داخلها في نهاية البحث والتأمل في تاريخ الأرض وولاداتها الحضارية، والثقافية، والملكية.
قبل ذلك، تسلّقت سموّ الشيخة بدور جبل كليمنجارو، ولم يكن الأمر مجرّد تسلّق جبل، بل، اكتشاف الإلهام الكامن فيه، والحكمة التي يرسلها لمن يريد الوصول إلى القمة، ومنذ ذلك الحين صارت الجبال هي دائرتها العلوية المرآوية «من المرآة»، تقول: «إن كل جبل يحمل مرآة»، وإن الجبل لا يحمل ما تريد، بل، يقبل فقط ما تحتاج، وإن ما نمنحه للجبل، يعود دوماً في صداه.
تقول الشاعرة الأمريكية «إميلي ديكنسون»: «الجبال الحلوة، لا تكذب عليَّ أبداً، لا تخيّب أملي، ولا تطير»، والجبال لا تطير فعلاً ولكنها تعلّمنا الصعود، وفي هذا الكتاب نتعلم من سموّ الشيخة بدور حكمة الصعود أيضاً حيث في القمم تنفرد أجنحة النسور، وفي داخل كل منّا نِسر.
حكمة الصقر سموّ الشيخة بدور تدرّبت على حكمة الصقر، وتأمّلت قوّته وشموخه وذكاءه، وقالت لنفسها: «إن نسج علاقة مع طائر هو في جوهره نقش ذاكرة في جسد الأرض».
تسلّق الجبل أيضاً يعلمنا ما ينبغي تركه، وما يستحق البقاء، وسوف تتكشف كل هذه الخبرة التأملية والجبلية في قلب باحثة عن الحقيقة، حقيقة الأرض التي قامت على القوة العاطفية والقيادية لصف من الملكات هن السلالة الأولى لسيدة وجدت كل هؤلاء الملكات في داخلها، ملكات الأرض، هن ملكات الروح وَ.. «إذا تعرفت على أرضك أدركت ذاتك».
من قبر مهجور في كلباء بدأت الحكاية، والحكايات كما ترى سموّ الشيخة بدور هي عظام الثقافة، والحكايات ليست في الورق، وفي السرد، وفي الكلام الشفوي الشهرزادي فقط، الحكايات في الحجر، وفي الشجر، وفي الطير، في الأفعى، وفي البومة، ومرة ثانية في الجبل، ومن هذه الينابيع كانت خلاصة هذا البحث الروحي، الصوفي، والجمالي، والفلسفي في المكان، وفي الزمان.
استوعبت أو الأصح هضمت سموّ الشيخة بدور ثقافة الأساطير والحكايات، وهي تقول «.. إن أساطير الخلق في ثقافات الشعوب الأصلية ليست قصصاً وحسب، بل هي خرائط روحية منسوجة بخيوط تجمع عالم الأرواح وعالم الحيوان، وعالم النبات».
صوت الروح قصة البحث عن ملكات مليحة في رحلة الكشف الإشراقية هذه، تطلبت من الشيخة بدور أن تتعلم «كيف أصغي إلى ذلك الصوت الهادئ الملح في داخلي.. صوت روحي..».
الإصغاء، أو لنقل فن الإصغاء، أو نبل الإصغاء.. ثيمة أساسية في سردية سموّ الشيخة بدور.. تقول: «أتيت لأذكركم بأراضٍ كانت تعرف أسماءكم يوماً../.. وبألسنة رقصت والتفت حول ضوء نيران عتيقة، طواها الزمان، لكنها لم تندثر فمن يحسن الإصغاء يدرك المعنى..».
أصغت سموّ الشيخة بدور إلى فراغ القبر، أصغت إلى عاصفة الجن، أصغت إلى لغة الحجر، أصغت إلى العقل والقلب، وبكليتها، وبكينونتها، وبشغف البحث عن الروح الملكية في المكان أصغت إلى مليحة: «.. مليحة مملكة عتيقة تكتنفها الأساطير والذكريات، سهل صحراوي تعلو فيه الكثبان كأنها شهود صامتون، وتحتفظ حجارته بأنفاس عوالم منسية..».
تكررت زيارات سموّ الشيخة بدور إلى مليحة.. زيارات تبدأ مع الفجر، كأنه الوقت الأكثر مثالية لملاقاة روح ملكة المكان.. تقول: «بمرور الوقت صرت أزور المكان وحدي، كان الصمت يجذبني إلى حكمة الصحراء الهادئة، أجلس قرب نيران الحطب، وأدع السكون يتسرّب إلى عظامي، وأسهر حتى يتسلل أول ضوء للفجر عبر الرمال، في فراغها الشاسع، كانت الصحراء تمنحني شعوراً بالاكتمال..».
تحت النجوم هنا، أجد نفسي أثناء قراءة هذا الكتاب في مكان آخر أيضاً في مليحة.. بدور تحت النجوم، وسوف يكتشف القارئ العلاقة الضمنية بين معنى النور والضوء في اسم الملكة التي تبحث عن ملكة، وبين المعنى النوراني الذي ترسله النجوم. إن النجوم بالنسبة إلى الكاتبة هي علامات الترقيم في هذا المخطوط الإلهي، «فوقي، توهجت النجوم كأنها نقوش في مخطوط إلهي. تحتي، كانت الأرض تحتضن عظام ملكات وأسلاف وحكايات منسية»، وتقول في مكان آخر: «لم تعد السماء فوقي مجرد سماء، بل تحولت إلى ذاكرة ومرآة وبوابة».
تتبُّع الصور والأحداث والوقائع في هذا الكتاب يضعك أمام شريط بصري صحراوي، هو في حقيقته شريط الروح التي تبحث عن روحها.. وهنا نقف أمام صورة النار. إنها ليست نار غاستون باشلار، ولا نار جحيم دانتي، ولا نار المجوس، إنها نار مليحة مملكة الملكات، مملكة ماوية، ومملكة أبيئيل.. تجلس الكاتبة أمام النار كما ينبغي أن تجلس ملكة أمام اللهب، لكن هنا يمتزج اللهب، فجأة، بصورة ذئبين: «.. وفي ليلة أخرى، وحيدة، مجدداً أمام النار، جالسة كما جلس أسلافي من قبل، منتصبة، متجذرة في الأرض، مصغية بعمق، تجلّت لي رؤية رأيت فيها ذئبين يزورانني، جلس أحدهما إلى يميني، والآخر إلى يساري، كانا قريبين حتى إنني كدت ألمس فراءهما الرمادي الفاتح..».
كانت تلك رؤيا الذئبين، وفي طريق الكشف والاكتشاف وصولاً إلى الحقيقة الملكية في مليحة، كانت هناك أيضاً رؤيا عاصفة الرمل، «الرمال الدوّامة» التي يقال إنها أنفاس الجن.. كلما دنت شامخة كجدار من أنفاس قديمة سمعت صوتاً ينبثق من قلب الرمال الدوّامة، كان يتكلم بثقل القرون: «لقد كنا ننتظرك».
فسألت: «من أنتم؟».
فأجاب الصوت واطئاً راسخاً: «نحن القبائل الخفية في مليحة. لقد كنا ننتظرك».
غمرني طوفان من الدهشة، فسألتهم: «ومنذ متى تنتظرون؟».
أجابوا: «منذ قرون، لقد كنا ننتظرك منذ قرون..».
تلك هي الرحلة، إذاً، الرحلة التي قادتها كما تقول إلى عوالم شاسعة مختلفة «تلامست مع الأفاعي، والبوم، والذئاب، والخيول، والصقور والحيتان. اتصلت بأصلي وجذوري وسلالة أجدادي..».
«أنا الملكة التي كنت أبحث عنها».
كتاب ملكات قبل أن تعثر على الملكة التي كانت تبحث عنها، ووجدتها في داخلها، ها هي الكاتبة، أو الباحثة، أو العارفة تطوف بنا في فلك من الملكات: من مليحة إلى الجزيرة العربية، إلى اليمن.
تكتشف سموّ الشيخة بدور، وبالصدفة، ملكة عربية قديمة قبل قرون عديدة هي الملكة ماوية «ماوية السرسنية» «حكمت في القرن الرابع الميلادي زعيمة مهيبة لاتحاد قبائل التنوخيين، ورغم أن مملكتها قامت بعيداً عن مليحة، فإن صدى حضورها تردد في أرجاء الجزيرة العربية..».
وفي مليحة عملات معدنية كان اسم الملكة «أبيئيل» مضروباً عليها. لم تكن ملكة واحدة «كان هناك على الأقل أربع نساء ضربن عملات بأسمائهن في شرق.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الخليج الإماراتية
