مسقط في 15 ديسمبر 2025 /العُمانية/ يشكّل الشعر العُماني اليوم فضاءً حيًّا تتقاطع فيه الذاكرة الجمعية مع جدية الرؤية الحديثة، وهو التوافق بين ما ورثه المجتمع /محليًا/ من تاريخ مادي وغير مادي مع الأفكار والأساليب الجديدة والعمل على التجريب في اللغة والصور، وذلك من أجل إيجاد محاولة دائمة لإنتاج رؤية شعرية مغايرة تحمل من الجدية الحديثة الكثير؛ فالشاعر العُماني عادة ما يسعى إلى كتابة نص واقعي يتجاوز التكرار مع العمل على إيجاد مساحة لبيان أسئلة ذاتية، مرورًا بالاستفادة من التقنيات الخاصة بالشعر الحديث حيث التعدد في الأصوات، والابتكار في اللغة، والعمل على بناء الرمز الشعري. وتزامنًا مع فعاليات مهرجان الشعر العُماني في دورته الـ13 الذي تنظمه وزارة الثقافة والرياضة والشباب بمسقط حتى الـ18 من الشهر الجاري، جاءت الأسئلة أكثر انفتاحًا مع الشعراء المشاركين، لكن بدورهم كانوا أكثر اتساقًا مع توجهاتها. فالشاعر ماجد بن حمدان الندابي يقترب من واقع حقيقة القصيدة الحديثة واتهامها أحيانًا بالغموض والانفصال عن المتلقي، وكيف للشاعر العُماني أن يوازن بين العمق الدلالي والتجريب من جهة، وقربه من حساسية القارئ العُماني والعربي من جهة أخرى، ويقول: في البداية ينبغي أن ندرك أن قضية الغموض في الشعر لم تكن غائبة عن اهتمام النقاد القدماء، فقد تناولها القدماء بالبحث والدراسة، ومنهم ابن رشيق القيرواني الذي أورد في كتابه العمدة قولًا دقيقًا يبين فيه طبيعة الغموض المقبول والمرفوض في الشعر، فيقول: "وليس كلُّ ما غَمُض مذمومًا، لأنّ من الشعر ما يزداد حسنه بغموضه، ويكون ذلك إذا كان المعنى رفيعًا لا تُدرَك دقّته إلا بالفِكر، فيكون الطِّلاب له أعذبَ، والوقوف عليه أشهى. وإنما المذموم من الغموض ما كان لفسادِ النَّظم، وسوء التأليف، وتعقيد اللفظ، حتى يَستبهم على السامع ويَعيا به المتفهم". ويضيف: هذا القول يفتح لنا بابًا واسعًا لفهم الفارق بين الغموض الفني والغموض المصطنع. وإذا تأملنا الشعر العُماني الحديث نجد أن الغالب عليه هو الغموض الإيجابي، ذلك الغموض الذي يمنح المتلقي مفاتيح دلالية تضيء له الطريق إلى فهم النص وتذوق معانيه. فحين يسمع القارئ القصيدة أول مرة تبرز له بعض الظلال الدلالية، ثم تتعمق هذه الظلال وتزداد وضوحًا كلما أعاد القراءة، حتى يتجلى النص أمامه بكامل طبقاته القريبة والبعيدة، وهذا النوع من الغموض يمنح القصيدة حياة متجددة، ويجعلها ممتعة عند القراءة، تلامس القلب قبل أن يفككها العقل. ويشير إلى أن هناك من يتعمد الفوضى اللفظية ويظنها غموضًا، بينما هي في حقيقتها تراكيب غير متجانسة، خالية من الإيقاع الداخلي، ولا تحمل أي دلالة واضحة. وهذا النوع يمكن للقارئ أن يميّزه من الوهلة الأولى، لأنه يفتقر إلى الانسجام وإلى البناء الشعري السليم. ويقول "الندابي": على الشاعر أن يراوح بين الدلالات العميقة التي تقترب من الغموض وبين الدلالات المباشرة الواضحة التي تمنح النص إشراقه، فالإفراط في الإيحاء قد يرهق المتلقي، والإفراط في الوضوح قد يجعل النص أقرب إلى النظم منه إلى الشعر، ومن هنا تأتي الحاجة إلى الموازنة بين العمق الدلالي والقدرة على الارتقاء بذائقة القارئ عبر صور مشرقة وتراكيب محكمة. وأكد أنه ينبغي على الشاعر أن يراعي غرض القصيدة، فكتابة قصيدة في حب الوطن مثلًا تختلف في مستوى غموضها عن قصيدة وجدانية ذاتية، لأن لكل موضوع طبيعته وميدانه، وهذا لا يعني أن يسقط الشاعر في فخ الوضوح التام الذي يقدّم معنى واحدًا مقيدًا لا يتجاوز حرفيته، فالشعر، في جوهره، يحوم حول المعنى ولا يقدّم الفكرة بشكل مباشر، بل يحيط بها ويصوغها في صور وخيالات تنتقل باللغة من التقريرية إلى التأملية، ومن المعنى الظاهر إلى المعنى الذي يُكتشف شيئًا فشيئًا. أما الشاعر عبدالعزيز بن حمد العميري فكان أكثر قربًا من المكان العُماني (القرية، البحر، الصحراء، الجبل) في القصيدة وما يمكن أن يكون له من دور في تشكيل صوت الشاعر وصوره، وما إذا كان من الممكن أن يستطيع الشاعر اليوم أن يكتب من خارج المكان دون أن يفقد ارتباطه به. ويوضح: من وجهة نظري، يمكن القول إن الشاعر العُماني اليوم يقف أمام تحدٍّ مهم يتمثل في إيجاد توازن واعٍ بين الموروث الشعبي الذي يشكّل ذاكرة المجتمع وثقافته، وبين الحداثة التي تفرض على الشعر رؤى وأساليب جديدة. ونستطيع القول أيضًا إن الشاعر العُماني بالفعل حاول أن يوازن بين هذين البعدين، وقد نجح عدد من الشعراء في كثير من الأحيان في تقديم تجارب تجمع بين الأصالة وروح العصر، وهذا النجاح لا يأتي صدفة، بل نتيجة إدراك أن التجديد لا يعني القطيعة، بل إعادة قراءة التراث وتفعيله في سياق معاصر، مع ضرورة أن يكون التجديد بحذر ووعي كي لا يفقد النص هويته. وأضاف: أرى أن اللغة عنصر محوري في هذا التحول، فهي كائن حي يتطور مع الزمن. ولذلك باتت لغة القصيدة الشعبية العُمانية اليوم مختلفة عمّا كانت عليه سابقًا؛ تغيّر إيقاعها، واتسعت صورها، ودخلت إليها مفردات جديدة تعكس تحولات المجتمع وذائقة الجيل. ومع ذلك، تبقى الروح الشعبية حاضرة في نبرة النص وفي بنيته العميقة، وهذا ما يجعل القصيدة قادرة على التطور دون أن تنفصل عن جذورها، بل تستوعب تحولات الشاعر الداخلية ورؤيته للواقع المتغير من حوله. وأكد العميري أن المكان العُماني يبرز بوصفه ركيزة أساسية في تشكيل الحس الشعري؛ فالقرية بسواقيها وأفلاجها ونخيلها وطينها، والبحر بأهازيجه ونوارسه، والصحراء باتساعها وأغاني حاديها، ليست مجرد صور محلية، بل ذاكرة حيّة تشكّل وجدان الشاعر. فالمكان هنا لا يظهر بوصفه خلفية، بل بوصفه جزءًا من التكوين الداخلي للشاعر، ينفذ إلى لغته وإيقاعه ويمنحه نبرة خاصة تعكس هوية المكان وتفاصيله. ولذلك ينعكس المكان في الصوت الشعري بمظاهر وأساليب كتابية متنوعة، تمتد أحيانًا لتكشف عمق التجربة الإنسانية ذاتها، لا حدود الجغرافيا فقط. وأوضح: أعتقد أن الشاعر يستطيع الكتابة عن مكانه حتى وهو بعيد عنه؛ فالمكان ليس ثابتًا، بل متحوّل، لأنه يسكن الذاكرة ويسري في روح الإنسان. فالمسافات لا تقلل من حضوره في النص، بل تزيده عمقًا ورمزية، خصوصًا حين يتحوّل المكان في البعد إلى حنين ورمز وهوية. وهناك أمثلة لنصوص كثيرة في الشعر الشعبي العُماني حضر فيها المكان بشكل متفرد، كانت تحمل هذه الثيمة وتستثمرها لخلق شاعرية أكثر اتساعًا. كما أرى أن الشاعر يكتب من الخارج لكنه يكتب من الداخل فعليًا؛ من تجاربه الأولى، من طفولته ولغته وصوره الراسخة. وما دام يحمل هذا الرصيد معه، فإنه قادر على استعادة المكان شعريًا مهما ابتعد عنه، لأن المكان في الشعر يُعاد خلقه بالوجدان قبل أن يُستدعى على الورق. فيما يتعرض الشاعر ناصر بن الغساني لوظيفة الشعر وما إذا كانت قد تغيّرت في سلطنة عُمان خلال العقدين الأخيرين، وما إذا كان الشعر أيضًا لا يزال فنًّا للتعبير الوجداني والجمالي، أم أصبح أيضًا مساحة للمساءلة والنقد وبناء الوعي. ويؤكد: الحياة في عمومها محليًا قد شهدت خلال العقدين الأخيرين تحولات اجتماعية وثقافية عميقة، انعكست بوضوح على الممارسات الفنية والأدبية، وفي مقدمتها الشعر. وإذا كان الشعر العُماني عبر تاريخه الطويل يميل إلى التعبير الوجداني وتمجيد القيم التراثية، فقد بات اليوم أكثر ارتباطًا بقضايا الإنسان المعاصر، وأكثر حضورًا في النقاشات الثقافية والاجتماعية. وأضاف: هنا يمكن القول إن وظيفة الشعر قد تغيّرت، لا بمعنى فقدانه لجوهره الجمالي، بل من خلال اتساع فضائه ودخوله في منطقة جديدة من الوعي. وتمثل ذلك في تنوع الأصوات الشعرية؛ فلم يبقَ الشعر كما كان، لقد تبدّلت أشكاله كما تتبدّل الريح حين.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من وكالة الأنباء العمانية
