في الأحياء التي ما تزال تحتفظ بملامح الخراب، تتعالى أصوات المطارق والمناشير كل صباح. الغبار يملأ الأفق، والوجوه المنهكة تتقاسم الأمل والجهد في آنٍ واحد. هكذا تبدو الصورة الأولى لمرحلة إعادة الإعمار في سوريا، التي بدأت بخطوات خجولة لم تتجاوز بعد نسبة 5 إلى 6%، وفق تقديرات عاملين في الميدان.
ورغم أن مؤشرات دولية تشير إلى كلفة هائلة لإعادة الإعمار تتراوح بين 216 و345 مليار دولار، فإن الواقع على الأرض يبدو أكثر بطئا، محكوما بظروف اقتصادية قاسية، وغياب الدعم الخارجي الكافي، إلى جانب تحديات محلية في التمويل والعمالة.
سوريا تتوقع مضاعفة إنتاجها من الغاز إلى 15 مليون متر مكعب بنهاية 2026
بداية خجولة
يصف صالح الموسى، أحد متعهدي البناء في ريف دمشق، المشهد قائلاً: «إعادة الإعمار بدأت فعلياً بنسبة لا تتجاوز 5 إلى 6%، ويقودها في الغالب أصحاب المنازل المتضررة، حيث تتعاون أربع أو خمس عائلات لترميم مبنى واحد، من دون وجود مشاريع بناء كبيرة، بل أعمال ترميم محدودة».
يعكس كلام الموسى واقع بداية محدودة تقتصر على ترميمات فردية أو تعاونية، لا على مشاريع بنى تحتية واسعة. ومع ذلك، أسهمت عودة الأهالي تدريجياً من الخارج في خلق طلب متزايد على السكن والإيجارات.
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، عاد أكثر من 500 ألف سوري إلى البلاد منذ أواخر عام 2024، ما رفع الطلب على المساكن والخدمات المحلية، وزاد الضغط على سوق مواد البناء.
في هذا السياق، يربط خبراء محليون بين بطء وتيرة الإعمار وضعف التمويل، إذ لا تزال غالبية المشاريع تعتمد على الجهود الذاتية أو التشاركية، في ظل غياب خطط استثمارية واسعة النطاق أو دعم مؤسساتي كبير.
أسعار مواد البناء
في سوق مواد البناء، حيث تتراكم أكياس الإسمنت والجبس، تتضح إحدى أبرز حلقات التعقيد في مشهد الإعمار. يرسم محمود خليفة، تاجر مواد بناء، صورة دقيقة لما يجري خلف الكواليس، موضحا أن السوق تشهد تحولات حادة في الكلفة والتوافر.
ويقول خليفة: «شهدت الأسعار تغيرات كبيرة بعد التحرير، إذ تراجع المعروض من المنتجات الوطنية بسبب نقص اليد العاملة وارتفاع كلفة الكهرباء، في حين أصبح المستورد متوافرا لكنه أعلى كلفة»، مشيراً إلى أن اليد العاملة أصبحت مسؤولة عن نحو 50% من ارتفاع الأسعار في السوق.
ويشرح أن الانفتاح التجاري النسبي بعد سنوات الإغلاق سمح بدخول بضائع من تركيا والصين وغيرها، لكن بأسعار متفاوتة، مضيفا: «يبلغ سعر طن الإسمنت التركي بين 170 و175 دولاراً، في حين يتراوح سعر البلاط بين 4 و5 دولارات للمتر، وتصل أسعار الخلاطات الصحية إلى ما بين 60 و70 ألف ليرة».
الاستيراد السبيل الوحيد
تعكس هذه الأرقام واقع السوق في ظل غياب إنتاج وطني كافٍ لتلبية الطلب، ما يجعل الاستيراد الخيار شبه الوحيد أمام المقاولين، وبالتالي يزيد الأعباء على المواطنين.
وتشير تقارير اقتصادية حديثة إلى أن أسعار مواد البناء ارتفعت بنحو 20% خلال عام 2025 في بعض المناطق، متأثرة بتقلبات سعر الصرف ونقص الإمدادات. وهو ما يفسر بطء حركة البناء التي كان يُتوقع أن تكون أكبر مع انطلاق مرحلة التعافي.
أجور عاملي البناء
في مواقع العمل نفسها، يعيش العمال يوميات شاقة بين الغبار والحرارة. يقول يوسف ناصر، عامل بناء في إحدى ضواحي دمشق: «نعمل من الساعة السابعة صباحا حتى العاشرة، وأحيانا حتى الواحدة ليلا، ونتقاضى نحو 300 ألف ليرة أسبوعياً، لكنها لا تكفي لتغطية الإيجار أو الكهرباء أو تكاليف المعيشة».
ووفق تقديرات محلية، لا تغطي هذه الأجور سوى 20 إلى 25% من تكلفة المعيشة الشهرية للعامل في العاصمة. ومع ساعات العمل الطويلة وغياب أي تعويضات إضافية، يتزايد الضغط المعيشي على شريحة واسعة من العمال الذين يشكلون العمود الفقري لقطاع الإعمار.
كما يعاني كثيرون من انعدام المزايا التأمينية، في ظل غياب نقابات فاعلة قادرة على ضمان حقوقهم أو تنظيم العقود، ما يجعل القطاع عرضة للتفاوت في الأجور والتشغيل غير المنظم.
الاقتصاد المحلي لا يكفي وحده
من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي علي الهاشم أن البلاد تحتاج إلى رؤية مالية وتشريعية أكثر شمولاً، ويقول: «سوريا تتجه نحو مرحلة إعادة الإعمار وعدم الاعتماد الكامل على المساعدات الدولية، لكن الاقتصاد المحلي وحده لا يستطيع تحمّل التكلفة».
ويشير الهاشم إلى تقديرات البنك الدولي التي تضع كلفة إعادة الإعمار على المدى الطويل عند حدود تريليون دولار، في حين تتراوح التقديرات الواقعية المحلية بين 400 و450 مليار دولار كمعدل أقرب للتنفيذ.
ويؤكد أن العقوبات الدولية المفروضة لا تزال تشكل عقبة أساسية، إذ تعيق تدفق الاستثمارات الأجنبية، داعيا إلى «تضافر الجهود المحلية والدولية ورفع العقوبات لتأمين بيئة تشريعية آمنة وجاذبة لرؤوس الأموال».
ويعتبر أن استقرار القوانين وتسهيل الإجراءات الاستثمارية يشكلان «شرطاً رئيسياً لإقناع المستثمرين بالعودة إلى السوق السورية».
المغتربون وقود الإعمار
من جهة أخرى، يرى مصطفى العلي، وهو مواطن عاد من النمسا بعد سنوات اغتراب، أن عودة المغتربين تشكل عنصراً أساسياً في تسريع التعافي. ويقول: «إذا بقينا في الخارج ننتظر تعافي البلاد، فلن يتمكن من في الداخل من النهوض وحده. عودة المغتربين والمساهمة، ولو عبر ترميم منازلهم، باتت ضرورة».
يتقاطع حديث العلي مع اتجاه بدأ يتسع منذ مطلع عام 2025، حيث عاد عدد من رجال الأعمال السوريين في أوروبا والخليج لإطلاق مشاريع محدودة في العقارات والبنية التحتية.
غير أن العقبات التمويلية والإجرائية لا تزال تحدّ من توسع هذه المبادرات، ولا سيما في ظل صعوبة تحويل الأموال وغياب الضمانات المصرفية المستقرة.
خطة لإعادة التوازن العمراني
في تصريحات خاصة لـ«إرم بزنس»، أكد وزير الأشغال العامة والإسكان السوري مصطفى عبدالرازق، أن الحكومة وضعت رؤية وطنية شاملة لسياسة إعادة الإعمار، «ضمن إطار تخطيطي زمني ومكاني يستند إلى منطلقات وطنية واضحة».
وأضاف عبدالرازق أن تقديرات الأضرار تتراوح بين 440 و900 مليار دولار بحسب حجم المشروعات ونطاقها، مشيراً إلى أن هذه الأرقام «قابلة للتنفيذ جزئياً ضمن الإمكانات المحلية، مع التركيز على البنية التحتية والإسكان والخدمات».
وذكر أن الوزارة حددت أهدافاً تشمل عودة المهجّرين، وتحقيق التنمية المتوازنة، وحماية الموارد الطبيعية، والحفاظ على التراث الثقافي، «وكل ذلك عبر الحوكمة والإدارة الرشيدة».
سوريا تلغي الفوائد والغرامات الضريبية عن أعوام 2024 وما قبلها
تحديات متشابكة وآمال حذرة
تجمع آراء الخبراء والعاملين في الميدان على أن إعادة إعمار سوريا لا تواجه فقط كلفة مالية باهظة، بل إشكاليات هيكلية تشمل نقص العمالة، ضعف الإنتاج المحلي، تقلب الأسعار، واستمرار القيود الدولية على التمويل.
ومع توقعات مؤسسات اقتصادية بنمو متواضع لا يتجاوز 1% خلال عام 2025، بعد انكماش العام الماضي، يبقى الانتعاش محدوداً.
لكن خلف الغبار المتصاعد من مواقع البناء، تلوح بوادر تحول اقتصادي تدريجي. فكل منزل يُرمَّم، وكل مغترب يعود، وكل عامل يواصل يومه رغم التعب، يشكل لبنة صغيرة في مسار طويل من التعافي.
وبين التحديات التي تثقل المشهد والآمال التي تحرك الناس، تبدو سوريا اليوم أمام اختبار مزدوج: هل تستطيع تجاوز مرحلة «الترميم الفردي» إلى «إعمار وطني شامل»؟
الإجابة، كما يقول أحد البنّائين: «النتائج لا تُقاس بالكلام، بل بما يتحقق على أرض الواقع».
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس
