في سباق بناء مستقبل مستدام، تقف منطقة الخليج على مفترق طرق، ففي دول مجلس التعاون الخليجي الست، تتلاقى أولويات التنويع الاقتصادي، والالتزامات المناخية، والرفاهية الاجتماعية، لتشكل أجندة وطنية ومؤسسية قوية.
ومن بين المؤسسات التي تمتلك أكبر إمكانية لتحويل هذه الرؤية إلى أثر ملموس، تبرز بنوك الكويت. فبفضل وضعها المالي والاقتصادي، ومصداقيتها المجتمعية، وجذورها الراسخة في المجتمع، تتمتع المؤسسات المالية الكويتية بالقدرة على أن تكون رائدة التحول المستدام في البلاد إذا ما استغلت هذه الفرصة.
من الامتثال إلى القيادة الاستراتيجية
أصبحت أطر الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) لغة عالمية للأعمال المسؤولة بشكل سريع. ومع ذلك، في منطقة الخليج، وخاصة في الكويت، لا يمكن ببساطة تقليد ونسخ هذه الأطر، بل يجب تكييفها مع السياق المحلي، فبينما توفر الأطر العالمية مثل مبادرة التقارير العالمية (GRI) ومجلس معايير محاسبة الاستدامة (SASB) وفريق العمل المعني بالإفصاحات المالية المتعلقة بالمناخ (TCFD) توجيهات قيّمة، فإن البيئة المؤسسية في الكويت، التي تشكلت بفعل الاعتماد على النفط، وبروز القطاع العام، والتوقعات العالية للرفاهية الاجتماعية، تتطلب ترجمة دقيقة وحقيقية لما تعنيه المسؤولية والاستدامة.
السياق الكويتي.. النفط والشباب والفرص
لا يزال اقتصاد الكويت مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بقطاع الهيدروكربونات، ولكن لا ينبغي النظر إلى ذلك على أنه عائق، بل فرصة. لطالما وفر قطاع النفط القوة المالية اللازمة لتمويل استثمارات التنويع والاستدامة، السؤال ليس ما إذا كانت الكويت قادرة على تحمل تكاليف التحول البيئي والاجتماعي والحوكمة، بل ما إذا كان بإمكانها تحمل عواقب تأخيره.
يمثل شباب البلاد محركاً قوياً آخر، فمع وجود أكثر من 60% من السكان دون سن الثلاثين، ستحدد تطلعات الأجيال الشابة، التي تزداد تعليماً وتواصلاً ووعياً بيئياً، شرعية السوق قريباً. لذا، يجب على البنوك الكويتية ليس فقط تمويل الاستدامة، بل أيضاً إيصالها بمصداقية إلى الجمهور وجيل عملائها القادم.
أربعة مسارات للريادة المصرفية المستدامة
دمج الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في الاستراتيجية الأساسية
تتمثل الخطوة الأولى في دمج مفاهيم الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في عملية صنع القرار الاستراتيجي، لا اعتبارها مجرد إضافة ثانوية في التقارير، ويشمل ذلك مواءمة إدارة المخاطر، وممارسات الإقراض، والمحافظ الاستثمارية مع أولويات التنمية الوطنية في الكويت، وخلال دوراتنا التدريبية التي نقدمها، أقرّ العديد من قادة البنوك بأن الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية لا ينبغي أن تقتصر على أقسام الاستدامة فقط، بل يجب أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من مناقشات مجلس الإدارة ونماذج الأعمال طويلة الأجل.
2. تمويل لدعم التحول الطاقي
بإمكان البنوك الكويتية أن تلعب دوراً محورياً في توجيه رؤوس الأموال نحو الطاقة المتجددة، وكفاءة الطاقة، والبنية التحتية المستدامة. ويمكن لأدوات التمويل الخضراء والمرتبطة بالاستدامة، كالصكوك الخضراء، أن تُسهّل عملية التحول مع الحفاظ على توافقها مع مبادئ التمويل الإسلامي، ويكمن التحدي في تطوير أطر عمل تتمتع بالمصداقية العالمية والشرعية المحلية.
3. تعزيز الحوكمة والشفافية
يولي المستثمرون اهتماماً متزايداً لجودة الحوكمة كمؤشر على القدرة على مواجهة المخاطر. لذا، ينبغي على البنوك الكويتية التوجه نحو الإفصاحات المتكاملة في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، واعتماد المعايير المعترف بها دولياً، مع مراعاة الأولويات المحلية في إعداد التقارير، فالشفافية تبني الثقة محلياً وعالمياً، وتُشير إلى جاهزية القطاع المالي الكويتي لاستقبال تدفقات الاستثمار المستدام.
4. الاستثمار في الوعي البيئي والاجتماعي والحوكمة وثقافة الحوكمة
لا ينجح أي تحول دون وجود كوادر بشرية، يجب أن يشمل بناء القدرات في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والحوكمة جميع المستويات التنظيمية، بدءاً من كبار المديرين التنفيذيين وصولاً إلى موظفي الفروع. يمكن للتعليم المستمر، وتخطيط السيناريوهات، وبرامج القيادة في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والحوكمة أن تُسهم في ترسيخ ثقافة الاستدامة التي تتجاوز مجرد المقاييس.
الزخم الإقليمي والضغط التنافسي
لقد أحرزت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية تقدماً سريعاً في تحديد أطر الاستدامة والالتزامات المناخية. بالنسبة للكويت، يُشكل هذا الأمر تحدياً وفرصةً في آنٍ واحد. من خلال الاستفادة من بنيتها التحتية المصرفية الراسخة وسمعتها المتميزة بالاستقرار، تستطيع الكويت أن تُميز نفسها كمركز للتمويل الإسلامي المسؤول، مركز يُوائم مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والحوكمة مع تقاليد التمويل الأخلاقي وبالتالي الحفاظ على الهوية الوطنية.
علاوة على ذلك، بدأ المستثمرون والجهات التنظيمية الإقليمية في مكافأة النماذج التي نجحت في تحقيق التكامل الحقيقي لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. وسيعتمد الوصول إلى التمويل الأخضر والشراكات الدولية والأدوات السيادية المرتبطة بالحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية بشكل متزايد على إحراز تقدم ملموس في مجال الجاهزية للتمويل المستدام. ولن تقتصر فوائد البنوك الكويتية التي تقود هذا التحول على تعزيز سمعتها فحسب، بل ستفتح أيضاً أسواقاً جديدة وشراكات عالمية.
دعوة إلى قيادة تعاونية
لا يمكن لأي بنك أو جهة تنظيمية بمفردها قيادة هذا التحول. ما نحتاجه هو تحالف عمل، وشبكة تعاونية من البنوك وصناع السياسات والأكاديميين ومنظمات المجتمع المدني الملتزمة بوضع خارطة طريق كويتية للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. ويمكن لمبادرات مثل برامج التدريب المشتركة ولجان الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية المشتركة بين البنوك والشراكات مع المؤسسات الأكاديمية أن تُسرّع من وتيرة التعلم المشترك والابتكار.
لا تقل أهميةً عن ذلك سرد القصص، يجب على قادة القطاع المصرفي الكويتي البدء في التواصل بشفافية بشأن مسيرتهم في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، مع تسليط الضوء على الإنجازات والدروس المستفادة، يمثل هذا التحول في التفكير، من رد الفعل إلى المبادرة، جوهر القيادة.
الخلاصة: من الرؤية إلى التحول
يقف القطاع المصرفي الكويتي عند منعطف حاسم، فمن خلال تبني الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية ليس كالتزام خارجي، بل كبوصلة استراتيجية وأخلاقية، تستطيع البنوك الكويتية التحول من مجرد وسطاء ماليين إلى رواد في بناء الاستدامة الوطنية. ويمكنها توجيه ثروة البلاد وتراثها ورأس مالها البشري نحو اقتصاد مرن ومتنوع وشامل. تمتلك البنوك الكويتية العمق والموهبة والأسس الثقافية اللازمة لقيادة هذه الرحلة ليس باتباع النماذج الدولية، ولكن من خلال صياغة نموذجها الخاص للتمويل المسؤول، وهو نموذج يعكس قيم الكويت وطموحاتها للأجيال القادمة.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس
