ملخص حقبة السلام الطويل التي عاشها العالم منذ 1945 لم تكن قدراً، بل نتيجة منظومة دولية صاغها قادة ما بعد الحرب لمنع تكرار الكارثة، لكنها اليوم تواجه خمس قوى تهدد بانهيارها: فقدان الذاكرة التاريخية، وصعود منافسين جدد، وتآكل التفوق الأميركي، وفرط التمدد العسكري، والانقسام السياسي الداخلي. الحفاظ على هذا "الاستثناء التاريخي" يتطلّب رؤية استراتيجية غير تقليدية شبيهة بتلك التي أطلقت نظام ما بعد الحرب.
شهدت العقود الثمانية الماضية أطول فترة من دون حرب بين القوى العظمى منذ الإمبراطورية الرومانية. هذه الحقبة غير المألوفة من السلام الممتد جاءت بعد حربين كارثيتين، كانتا أشد تدميراً بكثير من الصراعات السابقة، مما دفع المؤرخين إلى ابتكار فئة جديدة تماماً لوصفهما: الحربان العالميتان. ولو سار ما تبقى من القرن الـ20 على النهج العنيف والدموي نفسه الذي اتسمت به الألفيتان السابقتان، لكانت حياة معظم الناس الأحياء اليوم مختلفة تماماً.
LIVE An error occurred. Please try again later
Tap to unmute Learn more وفي الواقع، لم يكن غياب الحروب بين القوى العظمى منذ عام 1945 محض صدفة، بل كان للحظ الجيد ولتزامن الظروف دور معتبر في حدوث ذلك. لكن تجربة الحرب الكارثية دفعت أيضاً مهندسي نظام ما بعد الحرب إلى محاولة تغيير مسار التاريخ. فخبرات القادة الأميركيين الشخصية في خوض الحرب والانتصار فيها منحهم الثقة للتفكير في ما لم يكن في الحسبان، وللإقدام على ما اعتبرته الأجيال السابقة مستحيلاً، وذلك من خلال بناء نظام دولي قادر على إحلال السلام. ومن أجل ضمان استمرار هذا السلام الطويل، يتعين على القادة الأميركيين والمواطنين الأميركيين على حد سواء إدراك مدى فرادة هذا الإنجاز، واستيعاب هشاشته، وبدء نقاش جاد حول ما سيتطلبه الحفاظ عليه لجيل قادم.
إنجاز خارق ثلاثة أرقام تختصر جوهر النظام الأمني الدولي ونجاحاته: 80 و80 و9. فقد مضت 80 عاماً منذ اندلاع آخر مواجهة عسكرية مباشرة بين القوى العظمى، وهي فترة من الهدوء أتاحت لسكان العالم أن يتضاعفوا ثلاث مرات، وللمتوسط العمري أن يرتفع إلى الضعف، وللاقتصاد العالمي أن ينمو بمقدار يفوق 15 ضعفاً. ولو أن قادة مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية قبلوا باستمرار منطق التاريخ كما كان، لاندلعت حتماً حرب عالمية ثالثة - ولكانت حرباً نووية قد تنهي الحروب إلى الأبد.
كذلك، مرت 80 عاماً منذ آخر مرة استخدمت فيها الأسلحة النووية في نزاع مسلح. وخلال تلك العقود، نجا العالم من سلسلة لحظات كادت تعصف به، أبرزها أزمة الصواريخ الكوبية التي وقفت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على حافة مواجهة نووية، وقدر خلالها الرئيس جون كينيدي احتمال اندلاع الحرب بنسبة تراوحت ما بين الثلث والنصف. وفي الآونة الأخيرة، في السنة الأولى من الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022، لوح الرئيس فلاديمير بوتين جدياً باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية. وبحسب "نيويورك تايمز"، قدرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية احتمال قيام موسكو بضربة نووية بنسبة 50 في المئة إذا بدا أن الهجوم الأوكراني المضاد سيلحق هزيمة بالقوات الروسية المنسحبة. ورداً على ذلك، أوفدت واشنطن مدير وكالة الاستخبارات المركزية بيل بيرنز إلى موسكو لنقل مخاوفها. ومن حسن الحظ أن تنسيقاً دقيقاً وخلاقاً بين الولايات المتحدة والصين نجح في ثني بوتين، لكنه أكد مجدداً مدى هشاشة القاعدة العالمية غير المعلنة التي تحرم استخدام السلاح النووي.
كان قادة العالم يتوقعون أن تقدم الدول على تصنيع أسلحة نووية بمجرد امتلاكها القدرة التقنية اللازمة. وقد توقع الرئيس الأميركي جون كينيدي أن يصبح لدى العالم ما بين 25 و30 دولة نووية بحلول سبعينيات القرن الـ20، مما دفعه إلى إطلاق واحدة من أجرأ مبادرات السياسة الخارجية الأميركية. واليوم، وقعت 185 دولة على معاهدة عدم الانتشار وتعهدت بالتخلي عن الأسلحة النووية، فيما لا تزال تسع دول فقط تمتلك ترسانات نووية - وهو رقم بالغ الدلالة في حد ذاته.
ومثلما هي الحال بالنسبة إلى 80 عاماً من السلام وغياب الحروب النووية، يبقى نظام عدم الانتشار، الذي تتمحور حوله المعاهدة، إنجازاً هشاً بطبيعته. فهناك أكثر من 100 دولة تمتلك اليوم قاعدة اقتصادية وتقنية تمكنها من تطوير سلاح نووي، غير أن اختيارها الاتكال على ضمانات أمنية خارجية يعد خياراً غير مألوف من منظور الجغرافيا السياسية والتاريخ. وقد أظهر استطلاع أجراه "معهد آسان" عام 2025 أن ثلاثة أرباع الكوريين الجنوبيين باتوا يؤيدون امتلاك بلدهم سلاحاً نووياً خاصاً لمواجهة تهديدات كوريا الشمالية. وإذا تمكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تحقيق مكاسب في حربه عبر تنفيذ ضربة نووية تكتيكية ضد أوكرانيا، فستستنتج حكومات أخرى على الأرجح أنها في حاجة إلى درع نووي خاصة بها.
نهاية حقبة في عام 1987، نشر المؤرخ جون لويس غاديس مقالاً بارزاً بعنوان "السلام الطويل". كان قد مر حينها 42 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي فترة استقرار يمكن مقارنتها بتلك الممتدة بين مؤتمر فيينا عام 1815 والحرب الفرنسية -البروسية عام 1870، والعقود التي تلت ذلك حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. رأى غاديس أن أساس هذا السلام الحديث والممتد هو الحرب الباردة. وفي سياق دولي كانت توازناته وظروفه الموضوعية كفيلة، في عصور سابقة، بإشعال حرب عالمية ثالثة، واجهت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بعضهما بترسانتين قادرتين على امتصاص الضربة النووية الأولى والرد عليها بشكل حاسم. وقد وصف الاستراتيجيون النوويون ذلك بمبدأ "التدمير المتبادل المؤكد" MAD.
وإلى جانب تأسيس الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والترتيبات المتعددة الأطراف التي تطورت لاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي، والبعد الأيديولوجي الحاد للمواجهة الأميركية السوفياتية، اعتبر غاديس أن العامل الحاسم في ترسيخ السلام كان الحكم المشترك لدى الطرفين بأن المصالح العليا للنظام الدولي أهم من الخلافات الأيديولوجية. فقد كان السوفيات يمقتون الرأسمالية، وكان الأميركيون يرفضون الشيوعية، لكن رغبتهم في تجنب التدمير المتبادل كانت أقوى من دوافعهم العقائدية. وكما أوضح غاديس: "يجب النظر إلى اعتدال الأيديولوجيات، إلى جانب الردع النووي وتقنيات الاستطلاع، باعتبارها آليات أساسية ذاتية التنظيم في سياسات ما بعد الحرب".
وكما أدرك غاديس، كان العالم قد انقسم إلى معسكرين تسعى فيهما كل من القوتين العظميين إلى استقطاب الحلفاء حول العالم. فقد أطلقت الولايات المتحدة خطة مارشال لإعادة بناء أوروبا الغربية، وأسست صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لدعم التنمية العالمية، ودفعت نحو إنشاء الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة لوضع قواعد التبادل الاقتصادي وتعزيز النمو. ولم تلبث واشنطن أن تخلت عن استراتيجيتها التقليدية القائمة على تجنب التحالفات الملزمة - وهي فكرة تعود إلى عهد جورج واشنطن - لتنتظم في حلف شمال الأطلسي وتلتزم معاهدة دفاعية مع اليابان. وقد استخدمت كل أداة متاحة لبناء نظام أمني دولي قادر على مواجهة الخطر الذي مثله الشيوعية السوفياتية. وكما أوضح أليسون في مجلة " فورين أفيرز": "لو لم يكن هناك تهديد سوفياتي، لما قامت خطة مارشال ولا الناتو".
كان أساس السلام الطويل الحديث هو الحرب الباردة
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي مطلع التسعينيات، ساد خطاب احتفالي يبشر بعصر أحادي القطبية لم يبق فيه سوى الولايات المتحدة قوة عظمى وحيدة. ورأى أنصار هذا التصور أن النظام الدولي الجديد سيجني ثمار السلام، الذي يمكن للدول أن تزدهر فيه من دون القلق في شأن صراع بين القوى العظمى، بل إن السرديات السائدة خلال العقدين الأولين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ذهبت إلى حد.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية
