منذ لحظة الانقلاب الحوثي وسيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء وتمدّدها عسكريًا مطلع 2015، بدا المشهد نظريًا واضحًا: معركة وطنية لاستعادة الدولة وإنهاء مشروع مسلح فرض نفسه بالقوة على اليمنيين. لكن ما حدث لاحقًا، وبالتحديد منذ دخول الحرب عامها الثاني، كشف أن الحوثيين لا يحتاجون فقط إلى السلاح ليبقوا؛ بل يحتاجون قبل كل شيء إلى خصمٍ منقسم، وبيئة سياسية متشظية، وتحالفات مرتبكة، وخطوط تماس لا تُحسم، وأولويات متنافسة داخل المعسكر المناهض لهم. في هذا السياق، تحولت الحرب تدريجيًا من حرب يمنية واحدة ضد الحوثيين إلى حروب متعددة داخل المعسكر ذاته ، وبين القوى نفسها، ومع الدولة نفسها، وهو ما منح الحوثيين هدية استراتيجية مجانية: الوقت، ثم الوقت، ثم المزيد من الوقت حتى تحولت الجماعة من مشروع انقلاب معزول إلى سلطة أمر واقع تُدير اقتصادًا حربيا، وتبني مؤسسات قمعية، وتفاوض من موقع قوة نسبية.
في 2015 كانت الصورة العامة تتجه إلى فكرة استعادة الشرعية كعنوان جامع، ودخل التحالف العربي بوصفه داعمًا لهذا الهدف، وتشكّلت جبهات واسعة، واندفع اليمنيون بطرق متعددة للدفاع عن مدنهم وإيقاف التمدد الحوثي. لكن المشكلة لم تكن في غياب الشجاعة أو نقص التضحيات؛ بل في غياب العقل السياسي الموحد الذي يحوّل التضحية إلى مشروع دولة. ومع مرور الوقت، بدأ يتضح أن خصوم الحوثي يتوزعون على مراكز نفوذ متعددة: حكومة معترف بها دوليًا تعاني من ترهل إداري وفساد وضعف قرار، وقوى عسكرية وأمنية محلية صاعدة تُدار بولاءات مختلفة، وأحزاب سياسية تُقدّم حساباتها الخاصة على حساب بناء الدولة، ونخب اجتماعية قبلية واقتصادية تحاول حماية مصالحها في ظل الفوضى. كل ذلك صنع معادلة قاتلة: لا مركز قرار واحد، ولا غرفة عمليات واحدة، ولا رؤية سياسية واحدة للحسم أو للتسوية، ولا حتى تعريف متفق عليه لمعنى النصر .
استفاد الحوثيون من هذه الفوضى على مستويين متوازيين: الأول ميداني/عسكري، والثاني سياسي/اجتماعي. ميدانيًا، حين يتقاتل الخصوم أو يتنافسون على الجغرافيا المحررة، تنخفض كثافة الضغط على جبهات الحوثيين، وتتبدد الموارد، وتضعف خطوط الإمداد، وتُستنزف القوات في صراعات جانبية، أو في انتشار واسع بلا هدف حاسم. وسياسيًا، حين تتعدد الخطابات داخل المعسكر المناهض للحوثي، يصبح الحوثي قادرًا على الظهور دعائيًا كطرف متماسك مقابل خصوم مفككين ، ويستخدم ذلك لتجنيد أنصار جدد، ولترهيب المجتمع، ولتبرير قبضته الحديدية باعتبارها استقرارًا في مواجهة فوضى الآخرين .
منذ 2016 بدأ الانقسام يتجذر داخل البنية السياسية التي يفترض أنها تقود المعركة. تعثر بناء مؤسسات فعالة في المناطق المحررة، وتداخلت السلطات، وتزايدت المراكز المتنازعة على الإيرادات والأمن والقرار، وأصبحت الملفات الخدمية والاقتصادية الرواتب والكهرباء والمياه وسعر الصرف ساحة صراع إضافية. هنا فهم الحوثيون درسًا بالغ الأهمية: خصومهم قد يهزمونهم عسكريًا في معركة، لكنهم ينهزمون سياسيًا في إدارة ما بعد المعركة. ومع كل أزمة خدمات أو انهيار اقتصادي في المناطق الخارجة عن سيطرة الحوثيين، كانت الجماعة تكسب دعائيًا، وتقول للناس: انظروا إلى الفوضى حيث لا نحكم ، وتستخدم ذلك لإقناع بعض الشرائح تحت الخوف أو الحاجة بأن سلطة الأمر الواقع أفضل من الغياب التام للدولة.
ثم جاءت مرحلة أخطر: حين صارت المعركة ضد الحوثي موضوعًا ضمن صراعات أخرى، وليست الموضوع المركزي . نشأت معارك نفوذ داخل المدن المحررة، وتبدلت الولاءات، وظهرت تشكيلات مسلحة متعددة تتنافس على الأرض والموارد والنقاط والقرار. ومع تضخم اقتصاد الحرب (الجبايات، المشتقات، المنافذ، الشركات، الاعتمادات، الصرافة)، صار لدى كثير من الأطراف عن قصد أو دون قصد مصلحة في استمرار الحرب؛ لأن الحرب باتت تخلق ثروات سريعة ونفوذًا سهلًا خارج إطار الدولة. الحوثيون كانوا أذكى من الجميع في هذا الباب: أسسوا اقتصادًا حربيا منظمًا في مناطقهم عبر الجبايات والإتاوات والتحكم بالسوق، بينما ظل خصومهم عاجزين عن تنظيم اقتصاد دولة في مناطقهم، فظهرت الفوضى المالية وتعددت مراكز الإيراد، وتآكلت الثقة الشعبية. وفي كل مرة يُطرح سؤال لماذا لم يُحسم الحوثي؟ يعود الجواب إلى هذا الجوهر: لأن الدولة لم تُبنَ كأداة حسم، بل تركت تتآكل لصالح نفوذ متنازع.
أما الانقسام داخل التحالف نفسه، فقد منح الحوثيين مساحة أوسع للمناورة. التحالف في أي حرب ليس مجرد طائرات وسلاح؛ هو انسجام سياسي وأولويات موحدة وسقف أهداف محدد. حين تتعدد الأولويات داخل التحالف، تصبح الجبهات انعكاسًا لهذه التعددية: . هذا ليس اتهامًا بقدر ما هو توصيف لطبيعة حروب المنطقة المعقدة. الحوثي استثمر هذا التباين ليقدّم نفسه طرفًا واحدًا مقابل أطراف كثيرة، ويشتغل على الشقوق الصغيرة حتى تتحول إلى تصدعات كبيرة: خطاب إعلامي يضخم.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة عدن الغد
