في الاقتصادات التي تعاني من شحّ رأس المال، وتراجع الاستثمار طويل الأجل، تصبح القدرة على إعادة تشغيل الأصول غير المستغلة عاملاً حاسماً في تحريك النشاط الاقتصادي. ويبرز الاقتصاد الإبداعي، بطبيعته منخفضة الكلفة الرأسمالية وسريع الدوران، كأحد القطاعات القليلة القادرة على توليد قيمة مضافة من موارد قائمة، دون الحاجة إلى بنى تحتية جديدة أو تمويل ثقيل.
ضمن هذا السياق، بدأت صناعة الدراما التلفزيونية في سوريا، خلال عامي 2024 2025، باعتماد نموذج إنتاجي مختلف، يقوم على توسيع قاعدة الأصول المستخدمة في التصوير بدل الاكتفاء بالأستوديوهات التقليدية. وتُرجم هذا التحول عملياً عبر إدخال مواقع كانت خارج الدورة الاقتصادية، بما فيها مواقع عسكرية وأمنية سابقة، إلى منظومة الإنتاج الدرامي، لتتحول من مساحات جامدة إلى أدوات تشغيل ضمن قطاع ثقافي قابل للتسويق.
اقتصادياً، يندرج هذا المسار ضمن نماذج «إعادة توظيف رأس المال الثابت» (Asset Repurposing)، حيث يُستعاض عن الاستثمار في إنشاء أستوديوهات أو بناء ديكورات مكلفة باستخدام بنى قائمة ذات كلفة هامشية منخفضة.
ويؤدي ذلك إلى تقليص النفقات الرأسمالية، ورفع كفاءة الإنفاق التشغيلي، من خلال إعادة توجيه الموارد نحو العمالة، والخدمات اللوجستية، وسلاسل القيمة المحلية المرتبطة بالإنتاج التلفزيوني. وفي بيئة تتسم بمحدودية التمويل، وتقلّب السيولة، يقدّم هذا النموذج صيغة إنتاج مرنة وقابلة للتوسع التدريجي ضمن الاقتصاد الإبداعي.
سوريا توقع اتفاقية لإنشاء مدينة إعلامية في دمشق بـ1.5 مليار دولار
حجم السوق وتكاليف الإنتاج
رغم غياب بيانات رسمية دقيقة، تشير تقديرات إعلامية وتقارير قطاعية إلى أن موسم الدراما الأخير شهد إنتاج ما بين 15 و25 عملاً تلفزيونياً. وتتراوح تكلفة الحلقة الواحدة في الأعمال السورية المتوسطة بين 20 و40 ألف دولار، في حين تصل الميزانية الإجمالية لبعض المسلسلات المخصصة للسوق الرمضانية العربية إلى ما بين 800 ألف و1.5 مليون دولار، خاصة عند بيع حقوق العرض لقنوات ومنصات إقليمية.
ويكتسب موسم رمضان أهمية اقتصادية خاصة، إذ يمثل ذروة الطلب الإعلاني في السوق التلفزيونية العربية. ووفق تقديرات إعلامية، يمكن أن يحقق مسلسل ناجح خلال هذا الموسم عوائد تفوق كلفة إنتاجه خلال فترة زمنية قصيرة، ما يجعل الاستثمار في الدراما نشاطاً عالي المخاطرة نسبياً، لكنه مرتفع العائد.
خفض الكلفة وإعادة توجيه الإنفاق
يُعد بند الديكور من أكثر عناصر الإنتاج الدرامي استنزافاً للميزانيات، إذ يتطلب عادة تصميم مواقع تصوير كاملة، وبناء هياكل مؤقتة، وتأمين مواد وتشغيل فرق فنية متخصصة، وهي كلفة تتضاعف في الأعمال ذات الطابع التاريخي أو الواقعي. ومع ارتفاع تكاليف المواد والعمالة خلال السنوات الأخيرة، بات هذا البند يشكّل ضغطاً مباشراً على الجدوى المالية للأعمال التلفزيونية.
ضمن هذا الإطار الإنتاجي، يوفّر الاعتماد على مواقع تصوير جاهزة بديلاً اقتصادياً فعالاً، إذ يسمح باستخدام مساحات حقيقية واسعة ذات بنية مكتملة بدل إنشائها من الصفر. وضمن هذا النموذج، أتاح التصوير في مواقع فعلية، مثل قاعدة المزة الجوية أو مجمّعات كبيرة داخل دمشق، تقليص كلفة بناء الديكورات بشكل ملحوظ، وهو ما انعكس مباشرة على هيكل التكاليف الإجمالي للعمل الدرامي.
ويشير منتجون عاملون في السوق إلى أن هذا التحول يمكن أن يخفض بند الديكور بنسبة تتراوح بين 20 و30% من إجمالي الميزانية. ولا تُترجم هذه الوفورات إلى تقليص في حجم الإنتاج، بل إلى إعادة توزيع للإنفاق نحو بنود أكثر ارتباطاً بالدورة الاقتصادية، مثل: أجور الممثلين والفنيين، وخدمات النقل والوقود، والإقامة والضيافة، وتأجير المعدات التقنية، وأعمال ما بعد الإنتاج.
محمد العنزي رئيس مجلس إدارة شركة المها الدولية، خلال الإعلان عن مشروع مدينة بوابة دمشق للإنتاج الإعلامي والفني والسياحي -30 يونيو 2025
سوق العمل والأثر المضاعف
على مستوى سوق العمل، تعمل الدراما التلفزيونية كنشاط كثيف العمالة وقصير الدورة، وهو ما يمنحها أثراً تشغيلياً مباشراً يفوق وزنها النسبي في الناتج المحلي. فكل عمل درامي متوسط الحجم يشكّل وحدة تشغيل مؤقتة قادرة على استيعاب ما بين 200 و400 عامل في مراحل الإنتاج المختلفة، من التمثيل والتقنيات الفنية إلى الخدمات المساندة.
ولا يتوقف الأثر عند العمالة المباشرة، إذ يمتد عبر ما يُعرف بـ «الأثر المضاعف للإنفاق»، حيث ينعكس الإنفاق الإنتاجي على قطاعات: النقل، والمطاعم والفنادق، وتأجير المعدات، ما يوسّع نطاق الاستفادة الاقتصادية، ويزيد من دوران السيولة داخل الاقتصاد المحلي خلال فترة زمنية قصيرة.
كفاءة إنتاجية أعلى
إلى جانب الأثر المالي المباشر، أسهم استخدام مواقع تصوير واسعة وجاهزة في رفع الكفاءة الزمنية للعملية الإنتاجية ككل. فإتاحة مساحات كبيرة مكتملة البنية قلّصت مراحل التحضير والتنقل، وسمحت بتنفيذ مشاهد تتطلب أعداداً كبيرة من المشاركين أو ترتيبات حركة معقدة دون الحاجة إلى حلول تقنية مكلفة أو جداول تصوير ممتدة.
ووفق فرق إنتاج، فإن اختصار زمن التصوير، بعدة أيام فقط، ينعكس مباشرة على التكاليف التشغيلية المرتبطة بالأجور اليومية، وتأجير المعدات، والنقل، والخدمات اللوجستية، وهو عامل حاسم في موسم مثل رمضان، حيث يرتبط أي تأخير بخسائر تجارية مباشرة في فرص البث والعرض.
وزير الإعلام السوري: 1.5 مليار دولار استثمارات في المدينة الإعلامية
اهتمام إقليمي واستثماري
أعاد انخفاض تكاليف الإنتاج نسبياً إدراج سوريا ضمن الحسابات الاقتصادية لشركات إنتاج عربية تبحث عن أسواق أقل كلفة وأكثر مرونة. ووفق تقارير نشرتها وكالة «سانا» ووسائل إعلام إقليمية، شهدت، الفترة 2024 2025، سلسلة لقاءات بين جهات رسمية وشركات إنتاج عربية لبحث فرص التعاون في مجال الدراما، في مؤشر على تحوّل بيئة التصوير المحلية إلى عامل جذب استثماري.
ويرى محللون إعلاميون أن السوق السورية باتت تُصنَّف بين الأقل كلفة في العالم العربي، مع ميزة تنافسية إضافية تتمثل في تنوع جغرافي وحضري يقلّص الحاجة إلى التنقل أو بناء مواقع بديلة. ويمنح هذا الجمع بين انخفاض الكلفة وتوفر خبرات بشرية متراكمة الإنتاجَ في سوريا أفضلية نسبية، لا سيما في ظل الارتفاع المستمر لتكاليف التصوير في أسواق إقليمية أخرى.
موقع الدراما ضمن الاقتصاد الكلي
في سياق أوسع، يأتي هذا النشاط ضمن اقتصاد يعاني من نمو محدود. فبحسب تقرير البنك الدولي لعام 2025، يُتوقع أن يسجل الاقتصاد السوري نمواً يقارب 1% فقط، ما يعكس استمرار الضغوط الهيكلية. وفي هذا الإطار، تُصنّف الصناعات الثقافية، ومنها الدراما، كقطاعات مرنة قادرة على توليد دخل وفرص عمل دون اعتماد كبير على الاستيراد أو الاستثمارات طويلة الأجل.
ويشير اقتصاديون إلى أن الدراما تعتمد أساساً على رأس المال البشري المحلي، وتحقق عوائد عبر حقوق البث والإعلانات، ما يجعلها نشاطاً اقتصادياً قابلاً للتكيّف في بيئات اقتصادية معقدة.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

