الاستثمار في زمن اللايقين.. لماذا تتجه رؤوس الأموال العالمية إلى الخليج؟

يمرّ الاقتصاد العالمي في عامي 2024 و2025 بمرحلة دقيقة تتسم بتباطؤ النمو، واستمرار التوترات الجيوسياسية، وارتفاع كلفة رأس المال نتيجة السياسات النقدية المتشددة في الاقتصادات الكبرى. في هذا السياق المضطرب، لم تعد قرارات الاستثمار تُبنى على معادلة العائد وحدها، بل أصبحت ترتكز على مزيج أكثر تعقيدًا من الاستقرار، وقابلية التنبؤ، وجودة الأطر المؤسسية.

ومن هنا، يبرز التحول اللافت في اتجاه رؤوس الأموال العالمية نحو منطقة الخليج، بوصفه أحد أبرز ملامح إعادة تشكيل خريطة الاستثمار الدولي.

تشير أحدث البيانات إلى أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر عالميًا ما زالت تواجه ضغوطًا واضحة، فبحسب تقرير الاستثمار العالمي الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لعام 2025، تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر عالميًا بنحو 11% خلال عام 2024، لتصل إلى قرابة 1.5 تريليون دولار، في ظل تزايد حالة عدم اليقين وتراجع شهية المخاطرة لدى المستثمرين. غير أن هذا التراجع لم ينعكس بالحدة نفسها على جميع المناطق، إذ برز الخليج كاستثناء نسبي في مشهد عالمي متباطئ.

في هذا الإطار، سجلت دولة الإمارات العربية المتحدة نموًا لافتًا في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر خلال عام 2024، حيث ارتفعت بنحو 48% لتصل إلى أكثر من 45 مليار دولار، مدفوعة بإطلاق مشاريع جديدة وتوسع الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا، والخدمات، والطاقة النظيفة. كما حافظت السعودية على مستويات استثمار أجنبي قوية تجاوزت 20 مليار دولار، في سياق جهودها المستمرة لتنويع الاقتصاد ضمن رؤية 2030. وتأتي هذه الأرقام في وقت شهدت فيه الاقتصادات المتقدمة انكماشًا في تدفقات الاستثمار نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة وتقلب الأسواق المالية.

ولا يمكن فصل هذا الأداء عن الوضع المالي المتين لدول الخليج، فوفق تقديرات صندوق النقد الدولي، دخلت معظم اقتصادات المنطقة مرحلة الاضطرابات العالمية وهي تمتلك فوائض مالية واحتياطيات قوية، مع مستويات دين عام أدنى بكثير من المتوسط العالمي، هذا الواقع منحها قدرة أكبر على امتصاص الصدمات، والاستمرار في تنفيذ مشاريع تنموية واستثمارية كبرى، في وقت اضطرت فيه دول أخرى إلى تأجيل خططها أو تبني سياسات تقشفية. إلى جانب ذلك، لعبت الصناديق السيادية الخليجية دورًا محوريًا في تعزيز الثقة الاستثمارية، فهذه الصناديق، التي تدير أصولًا تقدر بعدة تريليونات من الدولارات، لم تعد مجرد أدوات لإدارة الفوائض، بل تحولت إلى فاعل استراتيجي في توجيه رأس المال العالمي نحو قطاعات المستقبل، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، والبنية التحتية، وسلاسل الإمداد. هذا التوجه يعزز صورة الخليج ليس فقط كمستقبل للاستثمار، بل كشريك طويل الأجل في تشكيل الاقتصاد العالمي الجديد. كما أسهمت الإصلاحات التشريعية والمؤسسية في رفع جاذبية المنطقة. فقد شهدت دول الخليج تحديثًا واسعًا في قوانين الاستثمار، وتسهيلًا لملكية الأجانب، وتطويرًا للمراكز المالية الإقليمية، ما أدى إلى تحسين بيئة الأعمال وزيادة عمق الأسواق.. ويُضاف إلى ذلك النشاط المتزايد في أسواق المال الخليجية، سواء من حيث الطروحات العامة أو تطوير أدوات تمويل جديدة، وهو ما عزز السيولة ورفع من معايير الحوكمة والشفافية. سياسيًا، استفادت دول الخليج من تبني سياسات براغماتية متوازنة في عالم يشهد استقطابًا حادًا بين القوى الكبرى.. وتشير تحليلات صندوق النقد الدولي إلى أن تدفقات رأس المال باتت أكثر حساسية لعوامل الاستقرار السياسي والقدرة المؤسسية، وليس فقط لمعدلات النمو. وفي هذا السياق، برز الخليج كمنطقة قادرة على توفير بيئة مستقرة وقابلة للتنبؤ، ما جعله وجهة مفضلة للمستثمرين الباحثين عن تقليل المخاطر الجيوسياسية دون التخلي عن فرص النمو.

ومع ذلك، فإن استدامة هذا الزخم الاستثماري لا تتحقق تلقائيًا؛ فتعزيز الشفافية وحماية حقوق المستثمرين، وتطوير رأس المال البشري بما يتناسب مع متطلبات الاقتصاد الجديد، تبقى عناصر حاسمة للحفاظ على الثقة طويلة الأجل، كما أن مواصلة تنويع الاقتصادات الخليجية وتقليل الاعتماد على القطاعات التقليدية، إلى جانب دمج معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية، ستحدد قدرة المنطقة على جذب الاستثمارات النوعية وليس فقط الكمية. في المحصلة، لم يعد تدفق رأس المال إلى الخليج مجرد استجابة مؤقتة لاضطرابات عالمية، بل يعكس تحولًا أعمق في كيفية تقييم المستثمرين للمخاطر والفرص، وفي عالم يعاد فيه تسعير المخاطر وإعادة رسم مراكز القوة الاقتصادية، يبدو أن الخليج انتقل من موقع هامشي في حركة الاستثمار العالمي إلى مركز صاعد يسعى لترسيخ مكانته ضمن الاقتصاد العالمي الجديد.


هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من منصة CNN الاقتصادية

منذ 6 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 8 ساعات
منذ 8 ساعات
صحيفة الاقتصادية منذ ساعتين
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 14 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 7 ساعات
فوربس الشرق الأوسط منذ ساعتين
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 8 ساعات
قناة CNBC عربية منذ ساعة
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 10 ساعات
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 14 ساعة