أنثروبولوجيا الترقيع. وإنتاج المعنى عربيا

يَبرز الترقيع في العالَم العربيّ كمُمارسةٍ يوميّة غَير مُسمّاة، لكنّها حاضرة في كلّ زاوية من الحياة، يتأرجح هذا الأخير بين التحديث المعلَّق والذاكرة المُثقَلة، بين البقاء والنجاة. فالترقيع ليس مجرّد فعلٍ لإصلاح ما تكسَّر، بل إنّه منطقٌ كامل لتدبير الحياة وإنتاج المعنى في ظلّ الهشاشة، يُبدع فيه المواطنُ العربيّ في جمْعِ المُتنافر وتوليفِ المُتناقِض لإبقاءِ الأشياء مُمكنة، ولو مؤقّتًا، حتّى أَصبح الترقيعُ عدسةً أنثروبولوجيّة يُمكن بها رؤية العالَم العربيّ من فوق.

يعود أصل هذا المفهوم، في جذره الأنثروبولوجي، إلى ما صاغَه كلود ليفي ستروس في كتابه الشهير «الفكر البرّي»، حين تحدَّث عن «البريكولاج» بوصفه شكلاً من التفكير العَملي الذي يَستخدم ما هو مُتاح لإنتاج معنىً جديد، بعيداً من منطق الهندسة والنسق المسبق، فـ «العالِم البرّي» عند ليفي ستروس لا يفكِّر بوسائل العِلم، بل بموارد المُصادفة، يَصنع من الفائض والمُستعمَل أدواتٍ جديدةً للعيش. وقد طوَّر جيمس كليفورد لاحقاً هذا التصوُّر حين اعتبَر الإثنوغرافيا ذاتَها شكلاً من الكولاج - أي تركيب قطعٍ مُتباعدة من ضمن لوحةٍ واحدة - لا يسعى خلاله الباحثُ إلى نسقٍ تامّ، بل إلى تظهير التعدُّد في انسيابه وتشظّيه.

بهذا المعنى، يُصبح «الترقيع» ليس مُمارَسةً تقنيّة فقط، بل إبستمولوجيا الحياة الهشّة، ومَنهجًا في التفكير والوجود، فالحياة اليوميّة في المُدن العربيّة - من القاهرة إلى بيروت، ومن فاس إلى عمّان - تُدار بمنطق «الاحتيال النبيل»، حيث يُفاوِض المواطنُ الدولةَ لا عبْرَ القانون، بل عَبْرَ القصص، والفتوى، والعلاقات، والوساطات، وما يسمّيه ميشيل دي سيرتو «فنّ المُمارسات اليوميّة»، أي قدرة الناس على اختراق النّظام عَبْرَ الحيلة والإبداع الصغير.

يُمارَس الترقيعُ إذًا بوصفه اقتصادًا للنجاة، واستطيقا للحدود، ومنهجًا مَعرفيًّا للحياة في عالَمٍ لا يَكتمل أبدًا؛ هو «نظام اللّا - نظام»، أو كما يُمكن تسميته استعارة بـ «الهندسة المعكوسة» للعَيش، حيث تُبنى الهويّة والعلاقات الاجتماعيّة لا على التماسُك، بل على المُفاوَضة المستمرّة مع الفوضى.

حياة كحيلةٍ جماعيّة

في المشهد العربيّ، نَجِد كيف يُدار العيش من ضمن توازناتٍ دقيقة بين الرسمي واللّامرئي، بين ما يُقال عَلَنًا وما يُتداوَل سرًّا. فإذا كان الترقيعُ لغةً غير مكتوبة، فإنّ مُدنَنا العربيّة تتحدّث بها بطلاقة، من الأسواق الشعبيّة في بيروت إلى مقاهي القاهرة القديمة، ومن أحياء الدار البيضاء إلى أزقّة دمشق. ففي الأحياء الشعبيّة، يتحوَّل الاقتصادُ غَير المُهيكَل إلى شبكةِ حياةٍ قائمة على الترقيع. وكما تقول الباحثة أريج الجافري في دراستها عن «المُدن الانتقاليّة»، فإنّ الترقيعَ ليس غيابًا للنظام، بل إعادة إنتاج محليّة له وفْقَ شروط النجاة.

في السياق ذاته، نَرى كيف تُدار الأخلاق والدّين بمنطق الترقيع، فهنا الدّين لا يُمارَس كنسقٍ مُغلَق، بل كترسانةٍ رمزيّة للتأقْلُم مع الواقع. وقد أَشار طلال أسد في كتابه «تشكيلات الخطاب الدّيني» إلى أنّ التديُّن الحديث ليس مجرّد التزامٍ عقائدي، بل إنّه «نظامٌ من المُمارسات التأويليّة المُتغيّرة التي تَستجيب لشروط الحياة الحديثة».

أمّا على مستوى العلاقة بالدولة، فالمواطن العربي يعيش في مُفاوَضةٍ دائمة بين الطّاعة والتمرُّد، بين القانون والعُرف، بين التراتبيّة والخداع اليومي، ليس من شيءٍ خطّيّ في هذه العلاقة، فكما يَكتب جيمس سكوت في «أسلحة الضعفاء»، «المُقاوَمة ليست دائمًا صراخًا في وجه السلطة، بل أحيانًا همس ذكي خَلف ظهرها». بهذا المعنى، الترقيع ليس انحرافاً عن النّظام، بل شكلاً من التفاوُض الخَفيّ معه، حيث يُعاد صَوْغُ الهيْمنَةِ في كلّ لحظة عَبْرَ ذكاءٍ شعبيّ لا يَملك نظريّة لكنّه يُنتِجها بالفعل.

في الفضاء الرقمي.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية

إقرأ على الموقع الرسمي


قناة الإخبارية السعودية منذ ساعة
صحيفة سبق منذ 18 ساعة
صحيفة الشرق الأوسط منذ 13 ساعة
صحيفة عكاظ منذ 22 ساعة
صحيفة عكاظ منذ ساعة
قناة الإخبارية السعودية منذ 22 ساعة
صحيفة سبق منذ 16 ساعة
صحيفة المدينة منذ ساعتين