صرحت رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بأن الصحافة الورقية لا تمثل سوى نحو واحد بالمائة من مصادر استقاء الخبر لدى المغاربة، في نظري لا يمكن اعتبار هذا التصريح مجرد توصيف رقمي لتحول عادات الاستهلاك الإعلامي، بل هو معطى سياسيا ثقيلا يفترض أن يفتح نقاشا عموميا صريحا حول سياسات دعم الصحافة، ولا سيما الصحافة الورقية ذات المرجعية الحزبية.
الأرقام الصادرة عن جهة تنظيمية رسمية لا تقدَّم للمعرفة فقط، بل لتصحيح الاختيارات العمومية حين تفقد صلتها بالواقع. وواحد بالمائة ليس رقما هامشيا يمكن تجاوزه أو تبريره بسهولة، بل هو حكم واضح على موقع الصحافة الورقية داخل المنظومة الإعلامية. فهو يعني ببساطة أن هذا الوسيط لم يعد أداة مركزية ولا حتى ثانوية في تشكيل الرأي العام، وأن حضوره في حياة المواطنين أصبح شبه منعدم.
انطلاقا من هذا المعطى، أجد صعوبة حقيقية في تبرير استمرار الدعم العمومي الموجه إلى الصحافة الورقية من المال العام. فالصحافة، في أي منطق ديمقراطي، تُدعم لأنها تُستخدم، لا لأنها ما تزال قائمة إداريا. وحين ينحصر استهلاكها في واحد بالمائة، يصبح السؤال البديهي هو لماذا نمول صحافة لا نقرأها ولا نعتمد عليها كمصدر للخبر؟
تزداد حدة هذا السؤال حين نضعه في سياقه البنيوي. فالغالبية الساحقة من الجرائد الورقية القائمة اليوم هي جرائد حزبية. أي أن جزءا مهما من المال العام يوجه إلى منابر حزبية فقدت جمهورها، ولم تنجح في إعادة تعريف دورها الإعلامي، لكنها ما تزال قائمة بفضل الدعم بدل أن تقوم بفضل القراءة أو التأثير. هنا لا نتحدث عن أزمة مهنية عابرة، بل عن واقع مستقر تؤكده الأرقام وتثبته خرائط الاستهلاك الإعلامي.
و يجدر هنا أن أشير أنني لا أناقش فكرة الدعم العمومي من حيث المبدأ، ولا أنطلق من موقف عدائي تجاه الصحافة الورقية. على العكس، أرى أن الدعم قد يكون أداة ضرورية لحماية الإعلام من منطق السوق الخالص. لكن هذا يفترض شرطا أساسيا لا يمكن القفز عليه هو أن يكون الدعم مرتبطا بخدمة عامة واضحة وبأثر قابل للقياس. وحين يغيب هذا الأثر، يتحول الدعم من استثمار في التعددية إلى إعالة مؤسساتية تطيل عمر هياكل فقدت وظيفتها.
ما تكشفه معطيات الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري هو فجوة متزايدة بين سياسات الدعم وسلوك الجمهور. المواطنون اليوم يستقون أخبارهم أساسا من التلفزيون وشبكات التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية، بينما بقيت الصحافة الورقية في هامش إحصائي ضيق. ومع ذلك، يستمر توجيه موارد عمومية نحو هذا الهامش، وكأن التحول لم يحدث، أو كأنه كان يجب ألا يحدث.
هذا ما يدفعني إلى قراءة الأمر من زاوية أخرى فالمشكل لم يعد في فشل الصحافة الورقية في استقطاب القراء، بل في سبب الإصرار على الإبقاء عليها حية شكليا. ما يمول اليوم ليس وظيفة إعلامية فاعلة، بل وجود رمزي. وجود يسمح بالقول إن التعددية قائمة، وإن الأحزاب تملك منابر، حتى وإن كانت هذه المنابر لا تصل إلى المواطنين ولا تؤثر في النقاش العمومي.
في هذا السياق، يتحول الدعم العمومي من أداة لتقوية الإعلام إلى وسيلة لصيانة واجهات تقليدية. وتتحول التعددية من ممارسة حية إلى رقم في التقارير. فالصحافة التي لا تُقرأ لا تضيف صوتا، والجرائد التي لا تناقش لا تصنع رأيا، مهما بلغ عددها أو انتظام صدورها.
ما كان يفترض أن يفتحه تصريح الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري هو نقاش عمومي شجاع حول فلسفة دعم الصحافة الورقية، وحول جدوى استمرار تمويلها، وخاصة حين تكون ذات طابع حزبي، من المال العام. هذا النقاش لم يعد ترفا فكريا، بل ضرورة سياسية تمليها الأرقام والوقائع.
بالنسبة لي، لا يتعلق الأمر بمستقبل الورق، ولا بصعوبة الانتقال الرقمي، بل بسؤال أبسط وأعمق، ،، هل نمول الصحافة لأنها تؤدي خدمة عامة، أم لأنها ما تزال قائمة على الورق فقط؟
إلى أن يقدم جواب واضح عن هذا السؤال، سيظل دعم الصحافة الورقية، خاصة الحزبية، خيارا سياسيا بلا مبرر ديمقراطي مقنع، وسيظل رقم الواحد بالمائة شاهدا على سياسة إعلامية لم تحسم بعد علاقتها بالواقع.
هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى
