بالواضح عبدالحفيظ حاجي
ليست المشكلة في أن تتقاطع كرة القدم مع السياسة، فذلك تقاطع تاريخي لا يمكن إنكاره، بل في اللحظة التي تفقد فيها اللعبة قدرتها على ضبط هذا التقاطع داخل حدودها الرمزية، فتتحول من فضاء للفرجة المشتركة إلى مجال لإعادة إنتاج التوترات القائمة خارج الملعب. هذا ما شعر به كثير من المتابعين خلال بعض مباريات كأس العرب بالدوحة، حيث بدا أن المباراة لا تُلعب فقط بالأقدام، بل تُحمَّل فوق طاقتها بدلالات لا تنتمي إلى روحها.
ما حدث لم يكن انفجارًا سياسيًا مباشرًا داخل الملاعب، بل انزلاقًا هادئًا وخطيرًا في آن واحد: انتقال المشجع من متابع للعبة إلى حامل لتأويل مسبق، يرى في كل لقطة انتصارًا أو هزيمة تتجاوز النتيجة الرياضية. هنا تفقد الكرة حيادها، لا بفعل قرار رسمي، بل بفعل تراكم نفسي جماعي يجعل المدرج امتدادًا لصراعات خارج المستطيل الأخضر.
كأس العرب، في بنيتها الرمزية، ليست بطولة عادية. إنها لحظة تواصل وجداني بين شعوب تشترك في اللغة والتاريخ والوجدان، وكان من الممكن أن تشكّل نموذجًا ناضجًا لفصل التنافس الرياضي عن السياق السياسي. غير أن بعض القراءات الجماهيرية والإعلامية أفرغت هذا المعنى، حين حُمّلت المباريات رسائل لم تُنتجها اللعبة نفسها، بل أُسقِطت عليها من الخارج.
اللافت أن الخلل لا يكمن في الهتاف أو الحماس أو الانفعال، فكلها مكونات طبيعية في كرة القدم، بل في غياب المسافة النقدية بين التشجيع والانتماء السياسي. حين تختفي هذه المسافة، يصبح الفوز تأكيدًا لموقف، والهزيمة إهانة جماعية، وتفقد الرياضة وظيفتها كمساحة آمنة للتنفيس والتلاقي.
الإعلام بدوره مطالب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بمراجعة لغته في تغطية البطولات الكبرى. فحين يتحول الوصف الرياضي إلى خطاب تعبوي، يصبح جزءًا من المشكلة لا من الحل. المطلوب ليس خطابًا محايدًا باردًا، بل خطابًا مسؤولًا يعي ثقل الكلمة في لحظات الشحن الجماهيري.
إن استعادة كرة القدم لرسالتها الإنسانية لا تمر عبر منع السياسة بشكل وهمي، بل عبر إعادة ترسيم الحدود بينها وبين اللعبة. فحين تُترك الكرة لتعبّر عن ذاتها كلعبة، تعود فضاءً للفرح المؤقت، المختلف عن صراعات الواقع، والقادر، ولو للحظات، على جمع ما يصعب جمعه خارج الملعب
هذا المحتوى مقدم من موقع بالواضح
