مذكرات خالد العيسى الصالح وقصة عمْر حافلة بالأحداث والمواقف (1 - 2). فجر حياته بزغ من فريج القناعات بين بيوت الطين وسقف الجندل وأبواب الخشب

ولدتُ في عام 1927م، كان ذلك في عهد الشيخ أحمد الجابر الصباح، الحاكم العاشر للكويت الذي تولى مقاليد الحكم من عام 1921 إلى عام 1950م.

ذلك الرجل الذي كان يجلس في ديوان قصر دسمان، يستقبل رجالات البلد ويستمع لهمومهم ويشاورهم في أمور البلاد في زمن لم تكن فيه للكويت وزارات بعد، بل كانت تحكمها روح الجماعة، ودواوينها هي برلمانها الحقيقي، ودوائر حكومية حديثة أنشئت لتساهم في تكوين مؤسسات الدولة.

ولدت في الحي الأوسط (فريج القناعات بين بيوت من الطين وسقوفها من الجندل والباسجيل، وأبوابها من خشب تتنفس من شبابيك صغيرة يطل بعضها على الفرجان الضيقة).

كان الحي يعج بالحياة، تسمع فيه أصوات الباعة في السوق ونداءات الأمهات لأبنائهن من على عتبات البيوت من بعيد، ووقع خطوات الرجال المتجهين إلى البحر بعد صلاة الفجر.

أما والدي عيسى الصالح المطوع القناعي، رحمه الله، وعمي مساعد الصالح رحمه الله، فقد كانا تاجرين كغيرهما من أهل الكويت في تلك الحقبة، يعملان في التجارة والسفر طلباً للرزق، ويُعرفان برزانتِهما. وحرصهما على الكسب الحلال، وأداء زكاة المال، وتقديم الصدقات وبر الوالدين، وعلاقتهما الاجتماعية المتميزة مع «عائلتنا القناعي» ومع أبناء الحي، وأبناء الكويت البررة حكاماً ومحكومين.

كانا شريكين في العمل، يسافران إلى الهند للتجارة بالتناوب، عاماً هنا وآخر هناك، حتى تبقى الأسرة في أمان ولا ينقطع مورد الرزق.

والده رافق الطواشين لبيع اللؤلؤ وكان يجيد اللغة الأردية

سافر والدي عيسى الصالح القناعي إلى فرنسا عام 1930م مرافقاً ومترجماً لرجل الأعمال الطواش علي بن حسين بن علي آل سيف الرومي، كما سافر مرة أخرى عام 1931م مع الطواش حسين بن علي آل سيف الرومي وابنه يوسف، وذلك لتسويق وبيع اللؤلؤ في فرنسا، وذلك بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي وكساد تجارته، وكانت الرغبة في زيارة التاجر الهندي «جند ولال شاه» لبيع اللؤلؤ، فقد كان والدي يجيد اللغة الأردية، وكان سفرهما من خلال الباخرة التي مرت في طريقها على بورسعيد ومنها إلى مرسيليا في فرنسا على البحر الأبيض المتوسط، ومن مرسيليا ركبا القطار إلى باريس، وأقاما في أحد الفنادق، ثم توجها إلى التاجر الهندي «جند ولال شاه» لعرض اللؤلؤ عليه.

كما سافر عمي مساعد الصالح مع الطواش محمد بن شملان بن علي آل سيف الرومي إلى فرنسا مترجماً له لبيع اللؤلؤ عام 1932م.

الكويت التي فتحت عيني عليها

في طفولتي الأولى، كانت الكويت مدينة صغيرة، محاطة بسورها الثالث الذي بني عام 1920م، تفتح أبوابها مع الصباح وتغلقها عند المساء، وقد اضطرت الكويت لبناء هذا السور درءاً للأخطار عن هذا البلد الذي يطمع فيه الطامعون لتميز موقعه الاستراتيجي على سواحل الخليج العربي، وكانت السفن الخشبية (البوم والسنبوك) تملأ الميناء، وصوت النواخذة والبحارة يختلط بأصوات السوق وروائح التمر والقهوة... كان المجتمع متماسكاً، وإذا ضاق الحال على بيت قام الجيران بسد حاجاته قبل أن يشعر بالغربة والعوز، وقد كان الاقتصاد يقوم على البحر برحلتيه الغوص على اللؤلؤ في الصيف، حيث يخرج الغواصون لشهور طويلة بحثاً عن الدر الثمين. والسفر التجاري في الشتاء إلى البصرة والهند وشرق إفريقيا يحملون تمور البصرة لبيعها في سواحل الخليج وموانئ الهند وإفريقيا، ويعودون بالأرز والشاي والتوابل والأخشاب والملابس وكل ما يحتاجونه.

وبعد عودة السفن التجارية إلى الكويت، يقوم التجار برحلة برية إلى نجد والعراق ومصر، يبيعون البضائع التي جلبوها من الموانئ المتعددة.

عرف تاريخ ميلاده من دفتر أبيه

من دفتر أبي عرفت تاريخ ميلادي

سنوات طويلة مرت قبل أن أعرف تاريخ مولدي على وجه الدقة، وكنت أظنه كما هو متعارف عليه بين الناس، ولد في زمن الشيخ أحمد الجابر، لكن ذات يوم وبعد أن كبرت في السن، وقعت على دفتر قديم كان يخص والدي، يحمله معه دائماً في جيبه، ويدون فيه الملاحظات المهمة، فإذا بخط والدي يثبت يوم مولدي بدقة كاتباً «في يوم 29 من شهر ربيع الثاني عام 1345هـ، قد رزقني الله طفلاً صغيراً في الساعة الثامنة من ليلة الخميس، وقد سميته خالد، وأعطيت التي بشرتني خمس روبيات».

قرأت الكلمات أكثر من مرة، كانت لحظة امتزج فيها الفرح بالحنين، كأن والدي، رحمه الله، ما زال يمسك بيدي ويهمس باسمي للمرة الأولى.

طفولة على وقع الأحداث

لم تكن طفولتي مجرد لعب ولهو، فقد شهدت وأنا بعد صغير أحداثاً كانت بداية نهضة الكويت.

أتذكر وأنا في الرابعة أو الخامسة من عمري، كيف تحدث الكبار عن تأسيس بلدية الكويت عام 1930م، بعد عودة الشيخ يوسف بن عيسى القناعي من البحرين واقتراحه على الشيخ أحمد الجابر - حاكم الكويت إنشاء بلدية كبلدية البحرين تنظم الأسواق والنظافة وتخطيط الطرق، وبعد تأسيس البلدية ونجاحها كمؤسسة حكومية بدأت الكويت بتأسيس دوائر حكومية أخرى لتنظيم البلاد وتطويرها مؤسسياً، فجاءت دائرة المعارف، لتشرف على التعليم عام 1936م، ثم دائرة الصحة، للعلاج عام 1936م، في نفس العام، ثم دائرة الأمن العام لحفظ النظام عام 1938م، ثم دائرة الأيتام عام 1938م، ثم دائرة الأوقاف لرعاية المساجد والشؤون الدينية عام 1949م، ثم دائرة المطبوعات والنشر، ودائرة الشؤون الاجتماعية عام 1954م. كانت هذه البدايات لنواة الدولة الحديثة قبل الاستقلال وأنا أسمع الأسماء والأحداث تتردد في ديواننا وأزقة الفريج دون أن أعي حينها أنها ستصبح فصولاً من تاريخ الكويت.

البيت والأسرة

بيتنا في فريج القناعات كان بسيطاً، لكن دفء القلوب فيه أغلى من القصور. في الصباحات الباكرة كانت أمي دلال عبداللطيف المطوع، رحمها الله، توقظنا على رائحة الخبز الطازج، ووالدي، رحمه الل، ه يتهيأ للخروج إلى السوق أو الميناء وعمي مساعد الصالح - رحمه الله- يأتي أحياناً ليطمئن على أحوالنا قبل سفره أو بعد عودته.

كنت أراقب الرجال وهم يتشاورون في شؤون العمل، وأحلم بيوم أصبح فيه واحداً منهم، أخرج مع الفجر وأعود مع الغروب، يسبقني اسمي في الأسواق كما يسبقهم اسم والدي وعمي.

أول طريقه إلى المدرسة المباركية كان عام 1932 ثم انتقل إلى مدرسة الملا عثمان

أول طريق إلى المدرسة المباركية

كان صيف عام 1932م، وفي يوم مشمس يلمع الغبار في أزقة فريج القناعات... مشيت خلف والدي في السوق، خطاي الصغيرة تلهث وراء خطاه الواسعة، بينما يعلو وجهي مزيج من الفضول والخوف... وفجأة توقف أبي أمام المكتبة الوطنية لصاحبها المرحوم محمد أحمد الرويح، صاحب أول مكتبة تجارية عرفتها الكويت عام 1920م، وكان يجلس على الأرض بجانب رفوف عامرة بالمصاحف والكتب، فتبادلا التحية، وكأن بينهما وداً قديماً.

قال له والدي مبتسماً: «اليوم نودي خويلد المدرسة المباركية».

ابتسم الرويح ونظر إلى ملياً، ثم مد يده إلى رف جانبي، وأخرج لوحاً من (الأردواز) وقلماً حجرياً، وسلمه إلي وهو يقول: «شوف يا خويلد، إذا ختمت القرآن، عندي لك هدية... مصحف مزرّي».

كلمة مزرّي، كانت جديدة على أذني، لكن بريقها سكن في قلبي، فهمت من نبرته أن الأمر ثمين، وظللت منذ ذلك اليوم أحلم به وأتخيله بغطائه المذهب.

واصلت المسير مع والدي حتى وصلنا إلى بوابة المدرسة المباركية التي أسسها أبناء الكويت عام 1911م، كأول مدرسة نظامية أهلية، كانت مقترحاً من الشيخ سيد ياسين الطبطبائي، ألقاه على الجالسين في ديوان الشيخ يوسف بن عيسى القناعي عام 1910م، يحث على تأسيس مدارس حديثة شاملة تستوعب أعداد أبناء الكويت الذين يتزايدون يوماً بعد يوم، فتم جمع التبرعات وبناء المدرسة، وتشكلت لجنة تطوعية.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الجريدة

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الجريدة

منذ 4 ساعات
منذ ساعتين
منذ 5 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 3 ساعات
صحيفة القبس منذ 18 ساعة
صحيفة الراي منذ 5 ساعات
صحيفة الأنباء الكويتية منذ 22 ساعة
صحيفة السياسة منذ 3 ساعات
صحيفة الأنباء الكويتية منذ ساعة
صحيفة الوطن الكويتية منذ 3 ساعات
صحيفة الأنباء الكويتية منذ 3 ساعات
صحيفة الأنباء الكويتية منذ 4 ساعات