أعاد مقال رأي للكاتب "جون بليندر" في "فايننشال تايمز"، فتح ملف الدين العام في الاقتصادات المتقدمة، عبر تساؤل مباشر عن مدى قابلية هذه الديون للإدارة مع مرور الوقت.ويرى الكاتب، أن الأرقام الأخيرة للدين تكشف انتقالًا بعيدًا عن النموذج التقليدي في المالية العامة، حين كان الدين يتضخم في الحروب ثم يجري تقليصه في سنوات السلم، بينما باتت الديون اليوم ترتفع في ظروف أكثر اعتيادية وتحت ضغوط إنفاق ممتدة.ويحذر بليندر، من أن استمرار المسار الحالي، قد يضع عبئًا ثقيلًا على الأجيال المقبلة، بما يرفع احتمالات التعرض لأزمات مالية وعدم استقرار سياسي، إذا لم يحدث تعديل واضح في السياسات.أميركا تقارب 100%ويستشهد الكاتب، بالمسار الأميركي ليوضح حجم التحول، فبعد الحرب العالمية الثانية تراجعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي في الولايات المتحدة من 106% في 1946 إلى 21.6% في 1990 و1991، قبل أن تعود للارتفاع حتى قاربت 100% في السنوات الأخيرة. ويربط بليندر، هذا الصعود بعوامل من بينها الأزمة المالية العالمية ثم جائحة "كوفيد 19".في رأيه تكمن المشكلة، في أن ظروف اليوم تختلف عن عقود ما بعد الحرب، النمو الاقتصادي أضعف نسبيا، أسعار الفائدة أعلى، والعجوزات المالية أوسع. يجعل هذا الخليط تثبيت نسبة الدين أو خفضها أصعب، لأن خدمة الدين تزداد كلفة في وقت لا يخلق فيه النمو ما يكفي، لتخفيف العبء تلقائيا.يركز بليندر، على ما يصفه بإشارة إنذار من توقعات "مكتب الميزانية في الكونغرس" الذي يتوقع ارتفاع نسبة الدين الأميركي إلى 156% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2055. ويضيف أن خطورة هذا المسار لا تتعلق بالمالية العامة وحدها، بل تمتد إلى دور سندات الخزانة الأميركية كمرتكز رئيسي في النظام المالي العالمي، إذ إن اهتزاز الثقة في استدامة الدين، قد ينعكس على تكلفة التمويل وعلى وظيفة هذه السندات كأصل مرجعي للأسواق.أوروبا أمام سيناريو تضاعف الدينينقل الكاتب كذلك تقديرات "صندوق النقد الدولي"، والتي تفيد بأن متوسط الدين العام في دول أوروبا قد يتضاعف خلال 15 عامًا، إذا لم تتغير السياسات. ويضع بليندر، هذا السيناريو في إطار سلسلة آثار محتملة تبدأ بارتفاع تكاليف الاقتراض، ثم ضغط على النمو، وصولا إلى مخاطر عدم الاستقرار المالي مع اتساع الحاجة للتمويل في بيئة أكثر تشددا من حيث العوائد.ويرى بليندر، أن أدوات خفض نسبة الدين إلى الناتج ليست سرًا، تحقيق فائض أولي في الموازنة قبل احتساب الفوائد يظل أداة مهمة، كما أن تسريع النمو يساعد عبر زيادة الإيرادات الضريبية وتقليص الإنفاق الدوري المرتبط بتباطؤ النشاط. ويشير أيضا إلى أن إبقاء الفائدة الحقيقية، دون معدل النمو يعد من أقوى آليات خفض الدين، لأن الناتج يكبر أسرع من عبء التمويل.لكن الكاتب يضيف أن الواقع يفرض مسارات أخرى أقل راحة، مثل خفض الدين بصورة غير مباشرة عبر التضخم، أو عبر ما يعرف بالقمع المالي حين تُدفع المؤسسات لحيازة الدين الحكومي بعوائد أقل من السوق. وفي تقديره، فإن هذه الأدوات تواجه حدودا أكبر اليوم مقارنة بالماضي، بسبب حساسية الأسواق وسرعة انتقال رؤوس الأموال والتسعير الفوري للمخاطر.بريطانيا بعد الحربلتوضيح كيف تُخفض الديون في الواقع، يستحضر بليندر تجربة بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية،وهبطت نسبة الدين إلى الناتج من أكثر من 250% في 1946 إلى 42% بعد نحو 3 عقود. ويستند إلى بحث لـ"باري آيكنغرين" و"روي إستيفس"، يوضح أن بريطانيا حققت فوائض أولية كبيرة خلال معظم مرحلة 1946 إلى 1955، رغم التوسع الكبير في دولة الرفاه.لكن بليندر، يشدد على أن أكبر مساهمة في خفض الدين خلال تلك السنوات جاءت من التضخم، الذي يُنسب إليه أكثر من 80% من خفض نسبة الدين في تلك المرحلة. ثم بعد 1955 تغيرت المعادلة، إذ صار الانضباط المالي والنمو أكثر تأثيرا، بينما تراجع أثر التضخم لأن ارتفاع الأسعار صاحبه لاحقا ارتفاع قوي في أسعار الفائدة بما حد من قدرة التضخم على "إذابة" الدين.يصف بليندر عملية خفض الدين، بأنها صراع توزيعي حول من يتحمل الكلفة، هل تتحملها الثروة المالية عبر تآكل القيمة الحقيقية للأصول أو عبر ضرائب أعلى، أم يتحملها العمال عبر ضغط الأجور أو الخدمات، أم يتحملها قطاع الأعمال عبر ضرائب وعوائد أقل. ويضيف أن هذه الفئات لم تعد منفصلة كما كانت في الأدبيات القديمة، لأن شريحة واسعة ممن يُصنفون كأصحاب ثروة مالية تشمل اليوم ملايين المشتركين في صناديق معاشات.ويشير الكاتب إلى أن ضغوط الإنفاق تتزايد بفعل شيخوخة السكان، وما يرافقها من تكاليف معاشات ورعاية صحية، ثم تأتي فاتورة التوترات الجيوسياسية، وكلفة التحول المناخي، ما يرفع الطلب السياسي على الإنفاق في وقت تتزايد فيه مقاومة رفع الضرائب.هل ينقذ الذكاء الاصطناعي النمو ؟يتوقف بليندر عند سؤال شائع في الأسواق: هل يمكن لطفرة إنتاجية يقودها الذكاء الاصطناعي أن تقلّص مشكلة الدين عبر رفع النمو. وينقل عن ورقة لـ"معهد دويتشه بنك للأبحاث" تقديرا وسطيا يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي، قد يرفع الإنتاجية بنحو 0.5% إلى 0.7% سنويا، لكن خلاصة الكاتب أن هذا التحسن، قد يبطئ صعود الدين أكثر مما يعكس اتجاهه بالكامل، أي أنه ليس حلا سحريا يغيّر المسار بمفرده.لماذا التضخم والقمع المالي لم يعودا حلين سهلين ؟بحسب بليندر، فإن التضخم لا يخفض الدين بفاعلية، إلا إذا جاء على نحو غير متوقع. أما إذا كان متوقعًا فإن الأسواق ترفع أسعار الفائدة لتعويض فقدان القوة الشرائية، ما يحيد أثر التضخم على عبء الدين. ويضيف أن التزام البنوك المركزية، باستهداف التضخم يقيّد استخدام التضخم كأداة، لأن رفع الأسعار بشكل دائم يتعارض مع هذا التفويض، ما يجعل الرهان على التضخم مرتبطا إما بأخطاء سياسة نقدية أو بتمويل سياسي مباشر للدين العام.وفيما يخص القمع المالي، يرى الكاتب أنه أكثر صعوبة في عالم مالي متطور، لأن القيود المطلوبة مثل ضوابط رأس المال قد تكون قابلة للاختراق، ما يقلل قدرة الحكومات على فرض عوائد منخفضة قسرا لفترات طويلة.يصل بليندر، إلى نتيجة أساسية مفادها أن خفض الدين، قد لا يأتي بإرادة سياسية طوعية بقدر ما يأتي عبر ضغط الأسواق نفسها، أي عبر انضباط سوق السندات وارتفاع كلفة التمويل حين تتغير شهية المستثمرين. ويرى أن هذا الطريق يحمل في طياته احتمالات أزمات مالية واضطراب سياسي.وفي سياق التحذير، ينقل الكاتب رأي الاقتصادي السويدي "أندرس أسلوند" الذي يرى أصداء عام 1929 في الوضع الراهن. وحتى مع اعتبار هذا التشبيه حادا، يخلص بليندر إلى أن مسار الدين الحالي في الدول المتقدمة يواجه اختبارات صعبة وأن نهايته لن تكون مريحة إذا استمرت العجوزات والضغوط كما هي.(ترجمات)۔
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد
