لا يتحول الوعي إلى صفة جماعية ولا يستقر كحالة عامة، مهما بلغ المجتمع من تنظيم أو تقدم، لأن الوعي بطبيعته لا يقبل التعميم ولا يعمل بمنطق الأغلبية. ومع ذلك نصرّ على الحديث عنه وكأنه خاصية تُنسب إلى المجتمعات فنقول هذا مجتمع واعٍ وذاك متأخر، وكأن الوعي يمكن أن يُقاس بالجغرافيا أو يُستدل عليه من ترتيب الشوارع أو هدوء المؤسسات، وهو تصور مريح لكنه مضلل لأنه يخلط بين الوعي والانضباط، وبين الإدراك والطاعة.
الوعي لا يتكوّن في الجموع ولا ينشأ في الكتل البشرية، بل هو تجربة فردية صامتة تبدأ من الداخل وتتراكم عبر القراءة الطويلة والمساءلة والاحتكاك بالأفكار والشك في المسلمات، أكثر مما تتشكل عبر الإجماع أو التكرار أو الاصطفاف، وكل ما يبدو خارج ذلك غالبًا ليس وعيًا بالمعنى الدقيق بل سلوكًا منضبطًا أو امتثالًا فرضته القوانين والعادات والرقابة الاجتماعية لا قناعة داخلية مستقرة.
ثمن الوعي مرتفع، ولهذا لا يصبح شائعًا ولا يُوزَّع بالتساوي على الناس. فهو ليس حالة سهلة ولا مكسبًا مجانيًا، بل تجربة مكلفة تتطلب وقتًا وصبرًا وقدرة على تحمّل القلق والتناقض والتخلي عن الإجابات الجاهزة والانتماءات المريحة، وهي كلفة لا يرغب كثيرون في دفعها ولا يملكون دائمًا استعدادها النفسي، فيكتفون بما يوفره لهم المجتمع من سلوك جاهز وقواعد واضحة تعفيهم من عبء التفكير العميق ومن مسؤولية الوقوف وحيدين أمام أسئلتهم.
في أوقات الاستقرار يبدو كل شيء أوضح مما هو عليه في الحقيقة، تعمل الأنظمة بسلاسة وتُحترم القوانين ويتحرك الناس ضمن مسارات محددة، فنستنتج بسهولة أن المجتمع بلغ درجة عالية من النضج والوعي، غير أن هذا الاستنتاج غالبًا ما يكون استعجالًا مريحًا لأن الوعي الحقيقي لا يُقاس حين تكون الأمور تحت السيطرة بل حين تختل وحين تُسحب الضوابط وحين يُترك الإنسان أمام اختياره دون شبكة أمان تحميه من نفسه.
الأزمات لا تصنع الوعي بل تكشفه، وهذه حقيقة صادمة لكنها متكررة. حين تهتز القواعد لا يظهر إدراك أعمق بل يظهر ما كان مختبئًا خلف النظام، ويصبح واضحًا أن كثيرًا مما اعتُبر وعيًا لم يكن سوى توازن مؤقت فرضته الظروف لا قناعة راسخة تشكلت عبر تجربة داخلية طويلة.
شهدنا ذلك بجلاء.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من موقع 24 الإخباري
