إن التوق الفطري لأي شعب نحو بناء دولة مستقلة ذات سيادة، تمكّنه من منافسة الأمم وصناعة مستقبله، يُعد غاية سامية تتضاءل في سبيلها كل التضحيات. غير أن مسار الشعوب لا يسير دائمًا باتجاه تجسيد هذه السيادة، بل قد ينحرف ليحوّلها إلى مجرد أداة وظيفية في يد قوى أكبر، تُصادر قرارها وتوجّه مصيرها لخدمة أجندات إقليمية ودولية.
وهنا يبرز السؤال المصيري: هل كُتب "للجنوب" أن يكون سيدًا على أرضه، أم أنه محكوم عليه بالبقاء كيانًا وظيفيًا في حسابات الآخرين؟
الجذور التاريخية: من الشيوعية إلى الرأسمالية العالمية
منذ رحيل آخر جندي بريطاني عن عدن، لم يُتح للجنوب مجال حقيقي لالتقاط أنفاسه ككيان مستقل. إذ سرعان ما ارتهن للنموذج الشيوعي، ليتحوّل إلى ما يشبه «مخبرًا وعصًا غليظة» في يد المنظومة الاشتراكية العالمية. استُخدم الجنوب حينها قاعدة لدعم حركات شيوعية في أربع جهات العالم، من «الخمير الحمر» في كمبوديا، إلى ثوار التاميل، ومن سان سلفادور إلى نيكاراغوا. كان الجنوب آنذاك أداة في الصراع الإيديولوجي الدولي، بينما ظل حلم الدولة السيادية مؤجلًا وغائبًا.
واليوم، يعيد التاريخ إنتاج نفسه بأدوات مختلفة. فبعد أن كان الجنوب مخلبًا للشيوعية، يُعاد تشكيله ليكون مخلبًا للرأسمالية العالمية، وابنها المدلل في الشرق: إسرائيل. هذه المرة لا لمواجهة خصوم إيديولوجيين، بل لتمزيق النسيج الجيوسياسي العربي، والتحول إلى رأس حربة في مواجهة جواره العربي، ولا سيما السعودية وسلطنة عُمان. لقد انتقل الجنوب من أداة «حمراء» إلى أداة وظيفية في الاستراتيجية الغربية الإسرائيلية الرامية إلى تفكيك المحور العربي الجنوبي.
وكما يُوظَّف الجنوب ضمن استراتيجيات التفكيك والإحلال الإقليمي، فإن المشروع ذاته يُطبَّق، بدهاء، على شمال اليمن، وإن اختلفت الآليات وتغيّرت الواجهات. فالقضاء على سلطة الحوثي في صنعاء لا يستهدف، في الحسابات الجيوسياسية الكبرى، إعادة اليمن إلى شعبه أو استعادة سيادته، بل استبدال سلطة غير منضبطة بسلطة وظيفية جديدة. يُراد لشمال اليمن أن يخرج من عباءة مشروع "مقاوم" يربك محورًا إقليميًا، ليدخل عباءة حلفاء جدد، يُنتقون بعناية ليكونوا امتدادًا طيعًا للفكر الوظيفي ذاته.
فهؤلاء، وإن اختلفت شعاراتهم وعناوينهم عن الحوثيين، فإن الدور المرسوم لهم يظل محصورًا في تنفيذ أجندات تحفظ مصالح القوى المنافسة، وتحويل الشمال إلى كيان ضعيف ومفكك، يُدار من خارج حدوده، ويُستخدم كأداة ضغط وردع دائمة في المعادلة الإقليمية، بدلًا من أن يكون شريكًا في بناء استقرار يمني سيادي.
وهكذا، تتحول عملية «التحرير» المزعومة إلى مجرد نقل للتبعية من شكل إلى آخر، حيث يُستبدل عدو غير قابل.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من مأرب برس
