تقترب ليبيا من طي عام اقتصادي اتسم بضغوط متواصلة على العملة المحلية الدينار وإنفاق متزايد، قبل أن يُختتم باتفاق على عقد برنامج إنفاق موحد للبلاد المنقسمة بين شرق وغرب.
فيما تظهر البيانات عجزاً في النقد الأجنبي وتراجعاً في إيرادات النفط التي تعتمد عليها خزينة الدولة العربية بنحو 90%.
وتعتقد مصادر اقتصادية ليبية، بينهم مسؤولان بالحكومة والمركزي، في حديث لـ«إرم بزنس»، أن الأرقام الجديدة تكشف استمرار الأزمة الاقتصادية، وتعد بمثابة دق ناقوس خطر من تزايد الإنفاق، متوقعين أن ينتظر اقتصاد ليبيا في 2026 مزيداً من الخطوات لتنويع الإيرادات وعدم الارتهان للنفط كمورد للدخل، مع ضبط الإنفاق العام والتركيز على المشاريع الإنتاجية، وتقليل الهدر وتحسين كفاءة توزيع الموارد.
مسؤول بمصرف ليبيا: طباعة 60 مليار دينار حل مؤقت لأزمة السيولة
عجز جديد
وكشف مصرف ليبيا المركزي، المسؤول عن إيرادات النفط المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية بالبلاد ودفع رواتب موظفي الدولة، في بيان، الأسبوع الماضي، عن تسجيل عجز في استخدامات النقد الأجنبي بنحو 7.8 مليار دولار خلال الفترة من يناير إلى نوفمبر من العام الجاري.
وأوضح «المركزي» الليبي أن إجمالي الإيرادات النفطية والإتاوات خلال تلك الفترة بلغ 20.7 مليار دولار، بينما بلغ إجمالي الاستخدامات والالتزامات القائمة بالنقد الأجنبي 28.5 مليار دولار.
وأشار المصرف إلى ارتفاع عجز النقد الأجنبي عن الشهر الماضي نتيجة تراجع الإيرادات النفطية والإتاوات منذ شهر سبتمبر الماضي، موضحاً أنه غطى قيمة العجز من عوائد استثمارات المصرف المركزي من الودائع والذهب.
ويرى رئيس قسم الاقتصاد في جامعة بنعازي حلمي القماطي، في حديث لـ«إرم بزنس»، أن بيان مصرف ليبيا المركزي عن الإيراد والإنفاق خلال الـ11 شهراً من 2025 ليس مجرد أرقام تُنشر للعلم بل هو مرآة لخلل بنيوي ظلّ يتراكم لسنوات وبدأت ملامحه تتحول من اختلالات محتملة إلى ضغوط حقيقية على مستقبل الاقتصاد الليبي.
وأضاف أنه «عندما يقول البيان إن هناك عجزاً في النقد الأجنبي فهذه ليست مسألة محاسبية بل إشارة إلى أن الاقتصاد الليبي يستهلك دولارات أكثر مما ينتج وأن النفط المورد الوحيد تقريباً لم يعد قادراً وحده على تغطية شهية إنفاقٍ مفتوحة بلا سقف».
مقر البنك المركزي الليبي في طرابلس، 27 أغسطس 2024
بدوره، نبّه أستاذ الاقتصاد في جامعة بنغازي أيوب الفارسي، في حديثه لـ«ارم بزنس»، أن «المصرف المركزي يعاني من تغول الإنفاق الحكومي على السياسة النقدية، وعدم وجود ضبط، وعدم وجود مواءمة للإنفاق قياساً بما يحقق من إيرادات»، لافتاً إلى أنه في ظل العجز لجأ المصرف المركزي في سنوات سابقة إلى تخفيض قيمة العملة تارة، وإلى السحب من الاحتياطيات تارة أخرى، وفق أيوب الفارسي عضو لجنة السياسة النقدية بالمصرف الليبي.
وكان مصرف ليبيا المركزي أعلن في 6 أبريل الماضي «تخفيض قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية 13.3%»، ليصبح 5.5677 دينار مقابل الدولار، وهو أول خفض رسمي منذ عام 2020، مرجعاً ذلك إلى ضغط الإنفاق المتزايد من الحكومتين المتنافستين خلال عام 2024، والذي بلغ 224 مليار دينار «نحو 46 مليار دولار»، فيما سيبلغ الدين العام الليبي 270 مليار دينار وسط توقعات بأن يتجاوز 330 مليار دينار بحلول نهاية العام، محذراً من أن استمراره «سيفاقم الوضع المالي والاقتصادي» وعدّه أمراً «خطيراً».
وفي إطار الاستعداد لعام 2026، والحديث لـ«الفارسي»، بدأ المصرف المركزي بتوقيع اتفاقية بين مجلس النواب ومجلس الدولة بتوحيد بند التنمية، والميزانية التنموية الموحدة بهدف ألا تكون هناك زيادة كبيرة في حجم هذا البند بما يفوق قدرة المصرف المركزي على التغطية؛ وحتى لا يلجأ المصرف المركزي إلى تخفيض قيمة العملة أو سحب كمية كبيرة من الاحتياطيات.
وكان الإنفاق التنموي «قناة رئيسية لإنفاق مليارات الدولارات من عائدات النفط»، بين حكومتين إحداهما في بنغازي شرق ليبيا والأخرى في غرب البلاد، ولم ينجحا في اعتماد ميزانية موحدة منذ ما يربو على عشرة أعوام، في ليبيا المنتج الكبير للنفط.
قبل أن يعلن مصرف ليبيا المركزي، في بيان، في 18 نوفمبر الماضي، بتوقيع مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لاتفاق بشأن برنامج تنموي موحد، «يضع إطاراً واضحاً لتوحيد قنوات الإنفاق، والصرف على مشروعات التنمية».
وراصداً أسباب العجز الحالي في إيرادات النفط والنقد الأجنبي، يرى أستاذ الاقتصاد في جامعة بنغازي أيوب الفارسي أن «هذا حدث في هذا العام والأعوام السابقة، وهو يدق ناقوس الخطر للحكومات لضرورة تنويع الاقتصاد الليبي»، مشدداً على أن «هذا المطلب يعد استحقاقاً لم تقم به الحكومات في ظل هذا الانقسام الذي لا يساعد على صياغة هذه الاستراتيجية».
ويعتقد الفارسي أن المصرف المركزي في عام 2026 ليس مسؤولاً وحده عن الاستقرار الاقتصادي؛ فعلى الحكومات، وعلى السياستين المالية والاقتصادية، أن تقوم بعملها من خلال ضبط ما يقع تحت أيديها من أدوات خلال العام المقبل ربما هذا سيخفف من وطأة أي تقلبات في قطاع الطاقة والإيرادات في المستقبل.
وبحسب القماطي، فإن اقتصاد ليبيا في 2026 يقف أمام خيارين لا ثالث لهما إما الاستمرار في إدارة الاقتصاد بعقلية توزيع الريع فتتحول الاختلالات إلى أزمات مفتوحة، أو البدء ولو متأخراً في إصلاح حقيقي يعترف بأن النفط لم يعد ضمانة وأن الاستقرار لا يُشترى بالدولار بل يُبنى بالإنتاج والسياسات الرشيدة.
وأوضح أنه في 2026 ومع استمرار عجز النقد الأجنبي سيبقى الدينار معلقاً بين سعر رسمي لا يعكس الواقع وسعر موازٍ يعكس اختلالات الاقتصاد لا نوايا التجار، فضلاً عن تضخم يرتفع لأن الاقتصاد يُدار بالاستهلاك في بيئة إنتاج شبه غائبة، بخلاف استمرار معضلة أن الدولة تنفق كاقتصاد غني بينما تنتج كاقتصاد هش وهذا التناقض سيجعل 2026 عاماً يزداد فيه الضغط على المصارف وتتعاظم فيه الفجوة بين الدخل الحقيقي وتكاليف المعيشة.
تراخيص النفط والغاز.. كيف يمكن لليبيا جذب شركات الطاقة العالمية؟
مسار مقترح للانتعاش
وفي حديث لـ«إرم بزنس»، قال وزير الدولة لشؤون الاقتصاد السابق ورئيس مجلس المنافسة ومنع الاحتكار الليبي الحالي، سلامة الغويل، إنه يجب لتعزيز الاقتصاد الليبي في 2026، تنويع الاقتصاد، وتطوير قطاعات الزراعة، السياحة، الصناعة التحويلية، والطاقة المتجددة، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتقليل الاعتماد على النفط، وكذلك توحيد الإنفاق ومراجعة الأولويات.
وأكد أن اقتصاد ليبيا في 2026 يحتاج إلى ضبط الإنفاق العام والتركيز على المشاريع الإنتاجية، وتقليل الهدر وتحسين كفاءة توزيع الموارد، ووضع آليات رقابية صارمة على المشروعات العامة والعقود الحكومية، وتشجيع الشفافية في القطاع المالي لتقوية الثقة المحلية والدولية، وتعديل الدعم تدريجياً وتنفيذ إصلاحات على مراحل لتجنب الصدمات الاقتصادية والاجتماعية.
ويخلص سلامة الغويل إلى أن ليبيا بحاجة في 2026 إلى اقتصاد أقل اعتماداً على النفط، إدارة مالية أكثر كفاءة، ومؤسسات شفافة، مع خطوات مدروسة لإصلاح الدعم الاجتماعي.
ويعتمد الاقتصاد الليبي بنسبة تفوق 90% على النفط، وبلغت إيراداته 79.4 مليار دينار (14.65 مليار دولار) في الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، وفقاً لمصرف ليبيا المركزي.
وواجهت ليبيا هذا العام أزمات اقتصادية عديدة أبرزها في السيولة النقدية، وقال مصرف ليبيا المركزي، في بيان يوم 14 أكتوبر، إنه تعاقد على طباعة 60 مليار دينار (11 مليار دولار) لضمان توفر السيولة النقدية «بشكل متوازن ومستقر»، لافتاً إلى أنه «تم استلام ما يقارب 25 مليار دينار وتم توزيعها على المصارف، وجارٍ توريد ما يقارب 14 ملياراً ستصل بالكامل قبل نهاية العام الجاري، والباقي سيكون في 2026».
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

