استكمالا لمقالاتنا السابقة حول رواية أميمة الخميس «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» الزاخرة بالثنائيات المعاصرة رغم تاريخية الرواية (فقه/ فلسفة، نور/ظلام، شرق/غرب). وما يجعل الرواية جديرة بالدراسة، أنها تتناول صراعات حضارية بين الأمم والشعوب والأديان، ومن خلالها يمكن ملاحظة مدى تأثير الخطاب الاستشراقي في الإبداع العربي، وكيف وقع المثقف العربي في هيمنة الدراسات الغربية، وأصبح يتماهى معها بصورة غير واعية.
في الرواية إشارة للفقهاء والفلاسفة والمعتزلة والصراع الفكري بينهم، وهناك إشارات غير مباشرة لجماعة «إخوان الصفا»، وقد تكون غير مقصودة داخل سياق الأحداث التي تدور ببغداد في القرن الرابع الهجري كجزء من بناء السرد عن الصراع الفكري والمعرفي في تلك الحقبة.
في الرواية البطل «مزيد الحنفي» ينضم لجماعة سرية تدعى «الغرانيق» وهنا يبدو اسم «الغرانيق» وكأنه عنصر روائي مختلق أو رمزي، ولكن قصتهم تتشابه لحد كبير مع جماعة إخوان الصفا باعتبارها جماعة سرية تمارس نشاطها الفكري والديني خلف الكواليس. في الرواية هناك دمج بين تيارات فكرية مختلفة (فقهية، فلسفية، صوفية) دون تحديد حدودها التاريخية، فالرواية في النهاية إبداعية تاريخية وليست كتاب تاريخ، وليس مطلوبًا من الكاتبة تقديم التاريخ بوصفه سجلًا يجب الالتزام فيه بالدقة الأكاديمية الصارمة.
ولكن يحق للقارئ أن يطرح أسئلته الخاصة عن الرواية وعن العوامل الفكرية والأيديولوجية المؤثرة في الرواية، وكيف تأثرت بالاستشراق على وجه الخصوص باعتباره عاملا مهما في صياغة الوعي الأدبي في العالم العربي. الرواية تبدي تعاطفًا مع التراث الفلسفي، يمكن ملاحظته في رمزيات تتقاطع مع المعتزلة وبعض الجماعات الفكرية التي يشبه وصفها جماعة إخوان الصفا. فالطابع السري والعمل بعيدًا عن الضوء العام واستقطاب الأفراد والموالين بسرية تامة حول مشروع فكري أو معرفي لجماعة الغرانيق قد يحيلنا بديهيا لإخوان الصفا.
الرواية تصور «الغرانيق» كجماعة سرية ومفكرين متنورين يركزون على المعرفة الشاملة والتساؤل الحر، ويسافرون من مكان لآخر بحثًا عن المعرفة أو لنشرها، ويواجهون مقاومة من المجتمع أو السلطة، ما يفرض عليهم العمل في الخفاء، وبالتالي فإن نشاط الغرانيق يظهر في الرواية وكأنه نضال مع أجل العقلانية والفكر الحر.
تاريخيا لعب إخوان الصفا دورًا بارزًا في «التوفيق بين الدين والفلسفة» أو تقديم العقل على النقل، وهذه عبارة فضفاضة تحتاج قراءة ناقدة تفكيكية رغم أنها تبدو عبارات براقة وبريئة، وطرح السؤال من جديد ولكن بصياغة مغايرة: ما العقيدة الدينية ذات الأصل اليوناني التي يريد إخوان الصفا إعادة تأويلها لتنسجم مع عقائد الدين الإسلامي؟
قبل الإجابة عن السؤال, دعونا نعود للوراء ونبحث عن الأصول الثقافية لإخوان الصفا وكيف نشأت أفكارهم الساعية للتوفيق بين الدين والفلسفة. وكما هو معروف تاريخيًا، عاش النساطرة وهم أتباع (الكنيسة النسطورية) وهي كنيسة شرقية موجودة في العراق وبلاد فارس وبلاد ما بين النهرين، في ظل الدولة الإسلامية ضمن نظام أهل الذمة، فالمجتمع الإسلامي القديم كان ينقسم لفئتين متمايزتين:.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية
