مشروع مدينة عمرة: بين الطموح التنموي ومتطلبات الاستدامة السياسية والمؤسسية

يشهد الأردن توسعا حضريا وديموغرافيا متسارعا ما أدى إلى ضغوط متزايدة على البنية التحتية، وموارد المياه والطاقة، وشبكات النقل، وجودة الحياة الحضرية. وفي هذا السياق، طُرح مشروع مدينة عمرة كأحد أكبر التدخلات التخطيطية المقترحة لإعادة توجيه النمو السكاني والاقتصادي خارج المركز التقليدي، وكسر نمط الرأس الواحد للعاصمة، من خلال إنشاء مركز حضري جديد شرق عمّان.

تعتمد هذه الورقة على تحليل شامل للمشروع من حيث دوافعه التخطيطية، ونموذجه المؤسسي والمالي، وخيارات التخطيط الحضري، والتحديات الهيكلية التي تواجهه، بالاستناد إلى بيانات الموازنة العامة، ومعطيات الشركة الأردنية لتطوير المدن والمرافق، ونقاشات السياسات المتخصصة. ويُظهر التحليل أن الحاجة التخطيطية لمدينة جديدة باتت واقعية في ظل الاختناقات الحضرية القائمة، إلا أن نجاح المشروع لا يرتبط بجدواه النظرية، بل بقدرته على معالجة مجموعة من التحديات الجوهرية.

وتبيّن الورقة أن النموذج المؤسسي الحالي، القائم على الشركة الأردنية لتطوير المدن والمرافق، يوفر مرونة تشغيلية مهمة، لكنه يثير في الوقت ذاته تساؤلات تتعلق بالحوكمة، وتعدد مراكز القرار، وتوزيع المسؤوليات، واستمرارية المشروع على المدى الطويل. كما أن الاعتماد الكبير على الشراكات مع القطاع الخاص واستثمار قيمة الأرض يجعل المشروع حساسا لتقلبات التمويل وثقة المستثمرين.

وفي ضوء تحليل السيناريوهات المستقبلية، تشير الورقة إلى وجود ثلاثة مسارات محتملة لتطور المشروع:

الأول، تحقيق سيناريو متفائل تتحول فيه مدينة عمرة إلى قطب حضري جديد مستدام في حال توافر التمويل، واكتمال مشاريع المياه والنقل.

الثاني، وهو السيناريو الأرجح، يتمثل في نمو بطيء وتحول المدينة إلى فضاء محدود السكن نتيجة تنفيذ الحد الأدنى من المرافق وتأخر عناصر الجذب السكني والنقل الجماعي عالي السعة.

أما السيناريو الثالث، فينطوي على مخاطر التعثر وتحول المشروع إلى عبء مالي في حال شح السيولة، أو تعثر المشاريع الاستراتيجية، أو تغيّر الأولويات الحكومية.

بناء على ذلك، تميل هذه الورقة إلى ترجيح مسار التأجيل المرحلي المشروط وإعادة تصميم الحوكمة والتمويل قبل التوسع السكاني الواسع، بوصفه الخيار الأقل كلفة استراتيجية على المدى الطويل. ويقترن هذا المسار بالانتقال من منطق المطور العقاري إلى منطق صانع التنمية ، عبر تخطيط اقتصادي متكامل، ونموذج حوكمة مستقل وواضح، وتنفيذ مرحلي مرتبط بمؤشرات أداء، مع إعطاء أولوية للبعد الاجتماعي وتوفير المعلومات اللازمة لتقييم المخاطر والعوائد بشكل شفاف.

وتخلص الورقة إلى أن التحدي الحقيقي لا يكمن في بناء مدينة جديدة بحد ذاته، بل في بناء قرار طويل الأمد قادر على الصمود سياسيا وماليا واجتماعيا، بحيث لا يتحول المشروع بعد سنوات إلى عبء على الدولة أو مصدر فقدان للثقة العامة في سياسات التخطيط الحضري.

المقدمة

لم يعد التوسع الحضري في الأردن ظاهرة يمكن التعامل معها بوصفها امتدادا طبيعيا للنمو السكاني، بل تحوّل إلى تحدٍّ هيكلي يمس قدرة الدولة على التخطيط طويل الأمد، وكفاءة البنية التحتية، وجودة الحياة في المدن الكبرى. فقد أدى التركز السكاني المتزايد في عمّان والزرقاء إلى نمط حضري غير متوازن، تستحوذ فيه المدينتان على الحصة الأكبر من السكان والأنشطة الاقتصادية والخدمات، بما يفوق القدرة الاستيعابية لشبكات النقل والمياه والطاقة والأراضي، ويولّد ضغوطا متراكمة لم تعد الحلول الجزئية أو التحسينات التشغيلية كافية لمعالجتها. ومع استمرار هذا الاتجاه، بات واضحا أن إدارة الأزمة من داخل المركز لم تعد خيارا مستداما، وأن الدولة تواجه ضرورة إعادة توجيه مسار النمو الحضري بدل الاكتفاء باحتواء آثاره.

في هذا السياق، يبرز مشروع مدينة عمرة بوصفه محاولة سياساتية لكسر نمط الرأس الواحد للعاصمة، وإعادة توزيع التوسع العمراني نحو الشرق، حيث تتوافر مساحات أرض أقل كلفة، وإمكانية تأسيس بنية تحتية حديثة من نقطة الصفر، بعيدا عن الأعباء العقارية والتشغيلية التي تعيق أي توسع داخل عمّان. ويتعزز منطق المشروع بموقعه الجغرافي، إذ تتموضع المدينة على بعد نحو أربعين كيلومترا شرق عمّان، وعلى تقاطع طرق دولية حيوية تربط الأردن بكل من المملكة العربية السعودية والعراق، ما يمنحها ميزة تنافسية محتملة لتؤدي دورا لوجستيا إقليميا في ظل الحديث المتزايد عن مشاريع الربط الإقليمي، وحركة التجارة العابرة، وإعادة الإعمار في دول الجوار. وبهذا المعنى، لا تُطرح مدينة عمرة كامتداد عمراني فحسب، بل كجزء من تصور أشمل لإعادة توظيف الموقع الجغرافي للأردن ضمن سلاسل القيمة الإقليمية.

غير أن المشروع، منذ الإعلان عنه، أثار نقاشا يتجاوز جدواه التخطيطية إلى طبيعته الوظيفية وهوية المدينة المقترحة. فبينما تؤكد الحكومة أن مدينة عمرة ليست عاصمة إدارية بديلة، تتضمن الخطط نقل بعض المؤسسات الحكومية والمرافق العامة بوصفها مشاريع محركة تهدف إلى خلق زخم أولي. ويعكس هذا التداخل رغبة في الاستفادة من مزايا نقل بعض الوظائف الإدارية لتخفيف الضغط عن عمّان، دون تحمّل الكلفة السياسية والرمزية لإعلان عاصمة جديدة، لكنه في الوقت ذاته يطرح سؤالا جوهريا حول قدرة المدينة على التحول إلى فضاء حضري حيّ يستقطب السكن والعمل والحياة اليومية، لا أن تتحول إلى مدينة وظيفية نهارية تعتمد على الحركة الإدارية فقط، بما يحد من قدرتها على تحقيق الهدف الديموغرافي الأساسي للمشروع.

على المستوى المؤسسي، اختارت الدولة تنفيذ المشروع تحت إشراف الشركة الأردنية لتطوير المدن والمرافق،[1] بصفتها ذراعا تنفيذية مرنة تعمل بموجب قانون الاستثمار، بما يسمح بفصل ملكية الأرض العامة عن إدارة التطوير والاستثمار، وتجاوز القيود البيروقراطية التقليدية، وتسريع طرح العطاءات والدخول في شراكات استثمارية. ويمنح هذا النموذج مرونة تشغيلية أعلى مقارنة بالإدارة الحكومية المباشرة، لكنه في المقابل يفتح تساؤلات تتعلق بحدود المساءلة، وتوزيع المسؤولية، وطبيعة الرقابة في مشروع طويل الأمد تتداخل فيه أدوار الدولة، والقطاع الخاص، وصناديق استثمارية عامة.

وتزداد حساسية هذه التساؤلات في ظل الواقع المالي القائم، إذ تشير التقديرات إلى أن الحيز المتاح للإنفاق الرأسمالي الحر في الموازنة العامة لا يتجاوز نحو 140 مليون دينار أردني، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية متطلبات البنية التحتية الأولية لمشروع بحجم مدينة عمرة، فضلا عن ضمان استدامته على المدى المتوسط. ويعني ذلك عمليا أن التمويل الحكومي المباشر ليس خيارا واقعيا، وأن المشروع يعتمد بصورة شبه كاملة على نماذج تمويل بديلة، تقوم على استثمار قيمة الأرض، والشراكات مع القطاع الخاص، وصيغ البناء والتشغيل والنقل. ويترتب على هذا الاعتماد ارتفاع درجة المخاطر، إذ إن أي عزوف من المستثمرين، أو ارتفاع في كلف التمويل، قد يؤدي إلى تجميد المشروع لغياب بديل حكومي قادر على سد الفجوة التمويلية.

أما على مستوى التخطيط، فقد تبنّت مفاهيم المدينة الذكية والتنمية الحضرية المستدامة، من خلال تقسيم المدينة إلى مناطق وظيفية متكاملة تشمل السكن، والعمل، والترفيه، والتعليم. ويعكس هذا التوجه انسجاما مع أحدث اتجاهات التخطيط الحضري المعاصر، إلا أنه يطرح في الوقت ذاته تساؤلات حول مدى مواءمته للسياق الاجتماعي والثقافي المحلي، خصوصا إذا ما طُبِّق بصيغة هندسية معيارية لا تراعي خصوصية المجتمع الأردني القائم على شبكات القرابة والجيرة وأنماط التفاعل الاجتماعي اليومية. وتكمن المخاطرة في أن يتحول التخطيط إلى تمرين هندسي محض، يعيد إنتاج نماذج حضرية ناجحة في سياقات أخرى، لكنها قد لا تفضي بالضرورة إلى مدينة قابلة للحياة اجتماعيا على المدى الطويل.

وتقوم استراتيجية التنفيذ الأولي على ما يُعرف بالمشاريع المحركة، التي تهدف إلى خلق وجهة وزخم مبكر للمدينة قبل اكتمال الكثافة السكانية، من خلال تطوير المدينة الرياضية والاستاد الدولي، ومركز للمعارض والمؤتمرات، ومناطق ترفيهية وحدائق بيئية، إلى جانب نقل بعض المراكز الإدارية. ورغم أهمية هذه المشاريع في وضع المدينة على الخريطة، فإن نجاحها يبقى مرهونا بقدرتها على التحول من عناصر جذب ظرفية إلى مكونات داعمة لحياة حضرية متكاملة، لا أن تبقى جزرا معزولة تفتقر إلى قاعدة سكنية واجتماعية مستقرة.

وعليه، لا يُطرح مشروع مدينة عمرة في هذه الورقة بوصفه مشروعا عمرانيا تقنيا، بل كقرار سياساتي عالي الأثر، تنطوي عليه التزامات طويلة الأمد قد يصعب التراجع عنها بعد الشروع في التنفيذ. فنجاح المشروع لا يتوقف على جودة التصميم أو حجم الاستثمار، بقدر ما يتوقف على حسم مبكر لنموذج الحوكمة، وتوزيع المخاطر، والوظيفة الحضرية للمدينة، بما يمنع تحوّلها مستقبلا إلى عبء مالي أو مدينة معزولة عن محيطها الاجتماعي والاقتصادي.

الجدول (1) مقارنة لبنود التأثير على المشروع

الدلالة والتأثير على مشروع مدينة عمرة القيمة التقديرية البند

مبلغ ضئيل جدا لا يكفي لإنشاء البنية التحتية الأولية (طرق، مياه، كهرباء) لمدينة بهذا الحجم.

140 مليون دينار الحيز المالي المتاح

الفجوة التمويلية هائلة، مما يجعل التمويل الذاتي الحكومي مستحيلا. مئات الملايين (تقديري) كلفة المرحلة الأولى

المشروع يعتمد كليا على التمويل الخارجي، الشراكة مع القطاع الخاص (PPP)، واستثمار قيمة الأرض. عالية جدا الاعتمادية

أي عزوف من المستثمرين أو ارتفاع في كلف التمويل سيؤدي لتجميد المشروع فورا لعدم وجود بديل حكومي. مرتفعة المخاطر

المنطق المالي والاقتصادي لمشروع مدينة عمرة: بين مقاربة خلق القيمة وجدلية التطوير العقاري

ينطلق المنطق الاقتصادي لمشروع مدينة عمرة من مقاربة غير تقليدية للاستثمار العام، تقوم على تحويل أصل منخفض القيمة أو عديم القيمة السوقية في وضعه السابق إلى أداة تنموية يُفترض أن تولّد قيمة اقتصادية تراكمية على المدى المتوسط والطويل، بدل التعامل معه كعبء مالي أو أصل خامد. فالأرض التي أُقيم عليها المشروع لم تكن، قبل تدخل الدولة، تتمتع بقيمة استثمارية حقيقية من حيث الموقع أو الجاهزية أو الطلب السوقي. غير أن تدخل الدولة، بصفتها فاعلًا اقتصاديًا تأسيسيًا، أعاد تعريف هذه القيمة وأدخلها ضمن معادلة جديدة للاستخدام الاقتصادي للأصول العامة.

أولا: منطق خلق القيمة من أصل منخفض الجدوى

تعتمد هذه الفلسفة على مبدأ اقتصادي جوهري مفاده أن القيمة لا تُكتشف فقط، بل تُصنَع. فقيام الحكومة باستخدام أدواتها المؤسسية والمالية للاستثمار في الأرض، عبر توظيف أموال وطنية (ومنها أموال الضمان الاجتماعي) ضمن إطار قانوني منضبط، لا يُعد مغامرة مالية بقدر ما هو إعادة توظيف لرأس المال الوطني في أصول طويلة الأجل. وبهذا المعنى، فإن المشروع لا يضيف عبئا جديدا على الاقتصاد، بل يعيد تدوير موارد قائمة في نشاط إنتاجي مستقبلي.

ثانيا: دور الاستثمار العام كأداة تحفيز للسوق

يُفهم إصرار الحكومة على تمويل المرحلة الأولى من المشروع بأموال حكومية على أنه دور تحفيزي تأسيسي، لا دور إقصائي للقطاع الخاص. فالمرحلة الأولى لا تستهدف تحقيق عوائد مالية فورية، بل تهدف إلى:

رفع القيمة السوقية للأرض نفسها.

خلق بيئة استثمارية موثوقة.

تقليل المخاطر الأولية التي عادة ما تُبعد المستثمرين، ولا سيما الأجانب.

وبذلك، تقوم الدولة بدور «المستثمر الأول» الذي يتحمّل كلفة الانطلاق، ليُفسح المجال لاحقا أمام استثمارات خاصة تدخل في مراحل أقل مخاطرة وأكثر وضوحا.

ثالثا: التطوير المرحلي وبناء الجاذبية الاستثمارية

تركّز المرحلة الأولى من المشروع على أربعة مكونات رئيسية:

مركز دولي للمعارض والمؤتمرات (2027)

مدينة ترفيهية عالمية (2028)

مدينة رياضية متكاملة (2029)

حديقة بيئية، مدينة تعليمية، ومراكز تكنولوجية.

هذه المكونات لا تُبنى باعتبارها مشاريع منفصلة، بل كمنظومة واحدة ترفع القيمة الكلية للمكان، وتُسهم في خلق طلب تلقائي على الأراضي المحيطة، وترفع أسعارها بشكل عضوي، لا مصطنع.

رابعا: البنية التحتية والنقل كعناصر تعزيز للقيمة

تتعامل الفلسفة الاقتصادية للمشروع مع البنية التحتية - ولا سيما المواصلات - باعتبارها أداة إنتاج للقيمة وليست مجرد خدمة عامة. فربط المشروع بشبكات نقل فعّالة ينعكس مباشرة على:

تسهيل الحركة الاقتصادية.

تقليص كلف التشغيل.

رفع جاذبية الموقع للمستثمرين والمستخدمين النهائيين.

وبالتالي، تتحول كلفة البنية التحتية إلى استثمار غير مباشر في رفع أسعار الأراضي وتعزيز الجدوى الاقتصادية للمراحل اللاحقة.

خامسا: الأثر المتوقع على الدورة الاقتصادية المحلية

لا تقتصر الفلسفة الاقتصادية للمشروع على جذب رؤوس الأموال، بل تمتد إلى بناء دورة اقتصادية محلية تشمل:

استقطاب العمالة.

تنشيط الطلب على الخدمات.

تحفيز الصناعات الداعمة، ولا سيما في مجالات اللوجستيات والتصنيع الخفيف.

ويُعزَّز هذا التوجه عبر اشتراط إشراك شركات محلية ومصانع وطنية في سلاسل التوريد، بما يحول المشروع من مجرد تطوير عقاري إلى منصة تنموية ذات أثر اقتصادي ممتد.

سادسا: الانتقال إلى مرحلة الاستثمار الخاص والأجنبي

مع اكتمال المرحلة الأولى وارتفاع القيمة السوقية للأراضي، تدخل المرحلة الثانية بطبيعتها المختلفة، حيث يصبح المستثمر - ولا سيما الأجنبي - أكثر استعدادا للدخول في المشروع، ليس على أساس الوعود، بل على أساس قيمة قائمة ومخاطر منخفضة. في هذه المرحلة، تكون الدولة قد أدت دورها التأسيسي، ونجحت في خلق سوق حقيقية، لا افتراضية.

مع اكتمال المرحلة الأولى وارتفاع القيمة السوقية للأراضي، تدخل المرحلة الثانية بطبيعتها المختلفة، حيث يصبح المستثمر - ولا سيما الأجنبي - أكثر استعدادا للدخول في المشروع، ليس على أساس الوعود، بل على أساس قيمة قائمة ومخاطر منخفضة. في هذه المرحلة، تكون الدولة قد أدت دورها التأسيسي، ونجحت في خلق سوق حقيقية، لا افتراضية. وتنتقل العلاقة بين القطاعين العام والخاص من منطق التحفيز الأولي إلى منطق الشراكة الاستثمارية المتكافئة، حيث يُبنى القرار الاستثماري على مؤشرات ملموسة تشمل جاهزية البنية التحتية، واستقرار البيئة التنظيمية، ووضوح الطلب الفعلي. كما تسمح هذه المرحلة بتنوّع أنماط الاستثمار ونوعية المستثمرين، وتوسيع قاعدة المشاركة الرأسمالية، بما يعزز تنافسية المشروع وقدرته على الاستدامة، ويحوّل التوسع العمراني من مشروع تديره الدولة إلى منظومة اقتصادية ديناميكية تقودها قوى السوق ضمن إطار حوكمي منضبط.

على الرغم من الاتساق النظري للمنطق الاقتصادي الذي تطرحه الحكومة، فإن هذا النموذج لا يخلو من إشكاليات تستدعي نقاشًا نقديًا جادًا. فثمة وجهة نظر ترى أن جوهر المشروع، في حال غياب الضمانات المؤسسية والتخطيط الاقتصادي المتكامل، قد ينزلق من كونه أداة لإعادة هيكلة النمو الحضري إلى نمط متقدم من تجارة الأراضي العامة، حيث يتم رفع قيمة الأرض عبر تدخل الدولة ثم نقلها تدريجيًا إلى السوق دون تحقيق التحول الديموغرافي والإنتاجي المعلن.

ويعزز هذا القلق غياب مؤشرات واضحة حتى الآن على أن النشاط الاقتصادي المنتج وليس التطوير العقاري سيكون هو المحرّك الأساسي للمدينة في مراحلها الأولى. ففي تجارب مقارنة عديدة، تحوّلت مشاريع مشابهة إلى مساحات استثمارية عالية القيمة المالية، لكنها محدودة التأثير الاجتماعي والديموغرافي، ما أفرغها من بعدها التنموي طويل الأمد.

في المقابل، تؤكد الحكومة أن هذا الطرح يتجاهل طبيعة التدخل المرحلي، وأن الاستثمار في الأرض ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لتمويل البنية التحتية وخلق بيئة جاذبة للأنشطة الاقتصادية، في ظل قيود مالية حادة لا تسمح بالتمويل التقليدي. ومن هذا المنظور، ترى الدولة أن إعادة توظيف قيمة الأرض هو الخيار الأقل كلفة استراتيجية مقارنة باستمرار الضغط على المدن القائمة أو التوسع غير المنضبط.

وعليه، لا يمكن حسم هذا الجدل لصالح أحد المنظورين بصورة مسبقة، إذ يتوقف توصيف المشروع كرؤية استراتيجية أو كتطوير عقاري موسّع على كيفية التنفيذ لا على منطق الطرح فقط. فالفارق الجوهري بين المسارين يكمن في:

أولوية الاستثمار المنتج على العائد العقاري،

ربط التوسع العمراني بمؤشرات سكانية واقتصادية حقيقية،

وجود حوكمة مستقلة تمنع اختزال المشروع في تعظيم قيمة الأرض على حساب الوظيفة الحضرية.

من دون ذلك، يبقى المشروع عرضة لإعادة تعريفه لاحقًا من قبل السوق، لا من قبل الدولة، بما قد يقوّض الهدف التنموي الذي أُعلن من أجله.

يُضاف إلى ما سبق سؤال جوهري لا يمكن لأي تقييم اقتصادي جاد أن يتجاهله، وهو: من هو المستفيد النهائي من هذا النموذج؟ فبينما يُطرح المشروع رسميًا بوصفه استثمارًا طويل الأجل يهدف إلى تعظيم قيمة الأصول العامة، ولا سيما أموال الضمان الاجتماعي، فإن طبيعة الأدوات المستخدمة في خلق القيمة تفتح المجال أمام تفاوت محتمل بين الجهة المالكة للأصل، والجهات التي قد تجني العوائد الأكبر في الممارسة الفعلية.

فعلى المستوى النظري، يُفترض أن يستفيد صندوق الضمان الاجتماعي، باعتباره مستثمرًا مؤسسيًا طويل الأجل، من ارتفاع قيمة الأراضي والعوائد المرتبطة بها، بما يعزز استدامته المالية ويخدم المشتركين فيه. غير أن التجارب المقارنة تشير إلى أن هذا النوع من المشاريع قد يفضي، في غياب أطر حوكمة صارمة وآليات توزيع شفافة للعوائد، إلى تركّز المكاسب في مراحل مبكرة لدى مطورين أو شركاء محددين، بينما تتحمل الجهات العامة مخاطر البنية التحتية والتمويل طويل الأمد.

وتكمن الإشكالية هنا ليس في إشراك القطاع الخاص بحد ذاته، بل في عدم وضوح آليات تقاسم المخاطر والعوائد، وتوقيت خروج بعض المستثمرين مقارنة بدورة الاستثمار الطويلة التي تلتزم بها المؤسسات العامة كصندوق الضمان. فإذا لم تُصمَّم العقود بطريقة تضمن احتفاظ الدولة والمؤسسات العامة بالحصة الأكبر من القيمة المضافة المتحققة على المدى الطويل، فإن المشروع قد يتحول فعليًا إلى قناة لإعادة توزيع القيمة من المال العام إلى أطراف محدودة، حتى وإن تم ذلك ضمن أطر قانونية شكلية.

من هذا المنظور، يصبح النقاش حول مشروع مدينة عمرة أقل ارتباطًا بجدوى خلق القيمة، وأكثر ارتباطًا بعدالة توزيع هذه القيمة. فالمعيار الحقيقي لنجاح المشروع لا يتمثل فقط في ارتفاع أسعار الأراضي أو جذب الاستثمارات، بل في الإجابة الواضحة عن سؤال: هل تعود العوائد المتحققة بصورة مستدامة إلى المؤسسات العامة والمجتمع الأوسع، أم تتركز في يد فئة محدودة من الشركاء والمستفيدين الأوائل؟

إن معالجة هذا السؤال تتطلب شفافية استباقية في نماذج الشراكة، وحدودًا واضحة لدور أموال الضمان الاجتماعي، وآليات رقابة مستقلة تضمن أن يبقى المشروع أداة تنموية وطنية، لا مجرد عملية تطوير عقاري ذات رابحين محددين وخاسر عام غير مرئي.

مقارنة بين نموذجين في تطوير مدن جديدة:

مدينة الملك عبدالله الاقتصادية ونيفيه إيلان

مدينة الملك عبدالله الاقتصادية (السعودية) - نموذج إيجابي

السياق السياسي والاقتصادي للتأسيس

أُعلن عن مدينة الملك عبدالله الاقتصادية عام 2005 بدعم سياسي مباشر ضمن توجه استراتيجي يهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط. اختير موقع المدينة على ساحل البحر الأحمر قرب جدة، وعلى مساحة واسعة، بما يسمح ببناء مركز اقتصادي متكامل. أُسند تطوير المدينة إلى شركة خاصة ضمن شراكة بين القطاعين العام والخاص، في إطار رؤية تستهدف إنشاء مدينة تجمع بين الصناعة والخدمات واللوجستيات والسكن والترفيه، وتندرج ضمن برنامج وطني أوسع لإنشاء مدن اقتصادية جديدة.

مراحل التنفيذ

ركّزت المراحل الأولى من التنفيذ على بناء البنية التحتية السيادية باعتبارها شرطا لجذب الاستثمار. شمل ذلك إنشاء ميناء تجاري متقدم بوصفه العمود الفقري للنشاط اللوجستي، إلى جانب تطوير مناطق صناعية مخصصة للصناعات الثقيلة والخفيفة. بعد ذلك، جرى التوسع في تطوير أحياء سكنية متنوعة ومرافق خدمية وترفيهية تهدف إلى استقطاب السكان. كما جرى ربط المدينة بشبكة النقل.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الغد الأردنية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الغد الأردنية

منذ ساعة
منذ 30 دقيقة
منذ 58 دقيقة
منذ 55 دقيقة
منذ ساعة
منذ 3 ساعات
صحيفة الرأي الأردنية منذ ساعة
خبرني منذ 5 ساعات
موقع الوكيل الإخباري منذ 9 ساعات
خبرني منذ 10 ساعات
خبرني منذ 12 ساعة
خبرني منذ 3 ساعات
خبرني منذ 10 ساعات
خبرني منذ 8 ساعات