فتى الفتيان.. بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم

بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم

لئن قال أبو الطيب المتنبى في رثاء خولة أخت سيف الدولة الحمداني قصيدة هي من غرر الشعر العربي، جاء فيها قوله:

أرى العراق طويل الليل مذ نعيت

فكيف ليل فتى الفتيان في حلب

فهذا الشاعر معذور حين وصف سيف الدولة بهذا الوصف، فأعلى منزلته على أقرانه، وذلك لأن أفضال سيف الدولة عليه كثيرة، وكان أميرا وقائدا فذا، مقر حكمه في مدينة حلب المعروفة اليوم في سورية. ولكني أرى أن المستحق لهذا الوصف هو محمد بن القاسم الثقفي الذي سوف يكون موضوعنا هذا خاصا به وبجهاده. عرف هذا البطل بأنه فاتح السند، وقبل أن نتطرق إلى ذكره وبيان أعماله فإننا ينبغي أن نأتي بمقدمة لابد منها.

ومن هنا نبدأ:

كنا ـ في الماضي ـ نعرف السند جيدا، وكانت أعداد من أهلها تأتي إلى بلادنا من أجل العمل، حيث كان الأهالي يطلقون عليهم اسم: السنادوه (جمع سندي)، وقد جاء في أمثالنا القديمة المتداولة بين الناس في ذلك الزمان مثل يقول: «عسى الهند اتوكل سنادوتها».

جاء هذا المثل في الوقت الذي لم تنشأ فيه دولة الباكستان منفصلة عن الهند، وكان اسم الهند يطلق على هذين البلدين معا. أما السند فهي حاليا مقاطعة واسعة تقع في الجنوب الشرقي للباكستان، وفيها نهر يسمى نهر السند، وإقليم السند ـ حاليا ـ هو ثاني أقاليم البلاد الباكستانية من حيث عدد السكان، وعاصمته هي كراتشي التي يعرفها الكويتيون الذين كانوا يبحرون ـ قديما ـ إلى هناك، وكانت في هذه البلدة جالية كويتية، وقد أنشأت بها حكومة الكويت مدرسة تتولى تعليم أبناء هذه الجالية. وفيها ـ أيضا ـ مكاتب تجارية أقامها بعض أبناء بلادنا هناك سهلت التجارة بين الهند والكويت منذ ذلك الوقت. ولقد كانت كراتشي عاصمة للباكستان منذ نشأتها إلى أن تم نقل العاصمة إلى مدينة: إسلام آباد.

٭ ٭ ٭

أما القائد المسلم محمد بن القاسم الثقفي الذي كان أصغر قائد في تاريخ العالم كله إذ لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره حين بدأ بشن الحرب التي كلف بقيادة جيوشها التي أمرت بالتوجه إلى السند وفق ما سوف يأتي من حديث.

وقد بدأ رحلته هذه عبر فارس مرورا بمنطقة بلوشستان إلى أن وصل إلى السند، مفتتحا كل البلدان التي مر بها حتى وصل إلى هدفه الأخير. فأقام بالسند والأماكن التي افتتحها في طريقه حكما إسلاميا، وأسس مساجد يرفع فيها الأذان إشعارا بذلك، وكلف من يقوم بنشر الدين الإسلامي بين السكان.

وقد تحدث ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» عن السند فحدد موقعها، وذكر أنها تقع على ساحل البحر، ثم قال: «فتحت في أيام الحجاج بن يوسف الثقفي ومذهب أهلها الغالب هو مذهب أبي حنيفة (هذا بالطبع بعد الفتح بزمن) وفيها عدد من رجال العلم بالدين».

وقد ورد ذكرها في شعر أحد المحاربين. وفيه يصف منازلته أحد أبطال أهلها عند المواجهة التي أدت إلى فتحها، وهذا المحارب هو الشاعر عبدالله بن سويد الذي قال يومذاك:

ألا هل إلى الفتيان بالسند مقدمي

على بطل قد هزه القوم ملجم

فلما دنا للزجر أوزعت نحوه

بسيف ذباب ضربة المتلوم

شددت له كفي وأيقنت أنني

على شرف المهواة إن لم أصمم

٭ ٭ ٭

تعرف القيادة الإسلامية المسؤولة عن هذه الحرب، وكان يمثلها الحجاج بن يوسف الثقفي، حجم العمل الذي يقدم عليه الجيش المسلم، وتعرف مداخل البلاد المطلوب فتحها كما تعرف مخارجها وتدرك أعداد السكان فيها، وأنه يقتضي لهم عددا كثيفا من المحاربين والمدافعين. ومن هنا نعرف أن هذه الحرب التي أدت إلى افتتاح السند كانت من أهم الحروب التي جرت في عصر الإسلام، وذلك لبعد المكان المستهدف بالنسبة لحدود الخلافة الإسلامية وقتذاك، بالإضافة إلى أن عدد سكان المنطقة المقصودة كان كبيرا آنذاك، وهذا الأمر يقتضي عددا وعدة كافيين، وهذا هو ما عنيت القيادة العليا بتدبيره، بحيث كفلت النصر، واستطاعت نشر الدين الإسلامي في تلك الآفاق البعيدة.

٭ ٭ ٭

يذكر في هذه الحرب التي أدت إلى فتح الهند بافتتاح القسم المحاذي منها للبحر العربي، وهو السند، رجلان من رجال التاريخ الإسلامي المشهورين هما:

٭ الحجاج بن يوسف الثقفي.

٭ محمد بن القاسم الثقفي.

1 ـ أما الحجاج بن يوسف الثقفي، فهو أحد القادة المعروفين في العصر الأموي، وهو من قبيلة ثقيف التي كانت تسكن مدينة الطائف وما حولها. وكان قد ولد وعاش هناك إلى أن انتقل إلى الشام والتحق بشرطة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، وكان قد اشتهر بالعنف، وانتقده عدد من الناس لأجل ما رأوه فيه من ذلك. ولكن من يعرف الوضع الذي كان سائدا في البلد الذي أمره الخليفة بالانتقال إليه وحكمه، ثم إرساء الاستقرار في جوانبه، ربما التمس له بعض العذر.

ولقد كانت له صفات أخرى طيبة تذكر له. وكتب التاريخ تروي كل ما له وما عليه، وأمره إلى الله عز وجل.

تعلم الحجاج في مسقط رأسه: الطائف، وذلك على يدي والده، وصار هو نفسه ـ بعد ذلك ـ معلما للصبيان فترة من الزمن، قبل أن ينتقل من الطائف إلى الشام.

2 ـ وأما محمد بن القاسم الثقفي فقد كان أحد قادة الجيوش الإسلامية في وقته، بل هو أبرزهم، وهو المعروف بأنه فاتح السند. ووالده هو القاسم ابن عم الحجاج الثقفي، وكان العم واليا على إحدى المدن في زمنه.

وقد ورد وصف كامل لتحرك هذا البطل بجيشه من مقره إلى أن بدأ بخوض معركته، وذلك كما يلي:

«تحرك محمد بن القاسم بجيشه المكون من خمسة آلاف مقاتل إلى شيراز في سنة 93هـ (711م)، وهناك انضم إليه ستة آلآف من الجند، فاتجه بهذا الجمع الكبير إلى السند، وكان أول فتح له هو: مدينة الديبل (كراتشي الآن)، وتم ذلك في سنة 711م، واستكمل بعد ذلك بقية المدن، حتى استولى على عدد كبير منها، ومن تلك المدن: مدينة بومبي التي كان اسمها آنذاك: مدينة الكيرج».

ونورد هنا هذا الإيضاح الجغرافي نقلا عن كتاب «الموسوعة العربية الميسرة» فقد ذكرت نهر السند فقالت عنه «إنه ينبع في الهملايا بغربي التبت، ويجري في كشمير في الباكستان حيث يتصل به نهر بنجناد، ويصب في بحر العرب».

وهذا البحر هو البحر الموصل للبحارة الكويتيين من آبائنا إلى كراتشي ومنها إلى مدن الهند الأخرى.

لقد بذل محمد بن القاسم جهدا كبيرا في الوصول إلى ما وصل إليه ولكنه جوزي جزاء سنمار كما يقول المثل العربي، وذلك لأن الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك توفي في نهاية تلك الحرب وخلفه أخوه سليمان بن عبدالملك الذي كان يكره الحجاج بن يوسف، ويحقد عليه، فكانت الصلة العائلية التي تربط ابن القاسم بالحجاج سببا في نقمة الخليفة الجديد عليه، فنكبه نكبة شديدة، ولم تشفع له أعماله في الفتوحات، وفي نشر الإسلام. فجرى عليه ما يجري على المخطئين، وهو في حقيقة الأمر غير مخطئ، ولم يكن له من ذنب غير صلته الأسرية بالحجاج بن يوسف.

٭ ٭ ٭

وردت فيما ذكرناه إشارات إلى أحداث جرت في فترة الحكم الأموي لبلاد الإسلام، وكان الخليفة ـ آنذاك ـ هو: الوليد بن عبدالملك كما ذكرنا ذلك آنفا، وهو حفيد مروان بن الحكم مجدد الدولة الأموية بعد أن كادت تنهار في آخر عهد أحفاد مؤسسها معاوية بن أبي سفيان.

تولى الوليد الخلافة بعد وفاة والده في سنة 76هـ (705م)، وتحدث عنه د.حسن إبراهيم حسن في كتابه: «زعماء الإسلام» فقال: «وكان أبوه قد أوصى له بالخلافة من بعده، على أن يخلفه أخوه سليمان، وعلى الرغم من أن الوليد شب مترفا، فإنه استطاع أن يقود الدولة الإسلامية بحزم أثار إعجاب المؤرخين وأصحاب السير، واستطاع على الرغم من سوء رأي أهله فيه أن يوجه الفتوح الإسلامية توجيها يشهد له بحسن الحيلة، وسعة الأفق، ورجاحة العقل».

وأضاف هذا الكاتب المنصف إلى ما تقدم قوله: «ولم يحفظ التاريخ من سيرة الوليد الخاصة ما يستحق أن يذكر، وإنما خلد ذكر فتوحه القيمة، وآثاره الرائعة التي طاولت الزمن، وبقيت على الأيام، وكر العصور».

وكانت له أعمال باهرة، وله اهتمامات متعددة، فقد عني بعمارة البلاد، واهتم بتنظيم الدولة، وبالفتوحات من أجل نشر الإسلام، وتثبيت سلطة الحكم الإسلامي في كل مكان يفتحه، وقام ببناء المسجد الأموي المعروف إلى يومنا هذا في دمشق، وجدد بناء المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، فبذل من أجله مبالغ طائلة، إضافة إلى إرساله المختصين بالبناء من أولئك الذين جرب عملهم، وشهد إتقانهم أثناء قيامهم ببناء المسجد الأموي بين يديه، كما أرسل المواد اللازمة للبناء مما يصعب الحصول عليه من المدينة المنورة حتى صار مبنى المسجد بعد تجديده تحفة معمارية رائعة أسعدت المسلمين جميعا، ولاتزال آثارها واضحة إلى هذا اليوم.

وكان الوليد يقول الشعر، ويحفظه، ويستمع إليه، وكان كريما يعين المحتاجين، ويكفل الأيتام، ويرتب لهم المؤدبين، ويعين لمكفوفي البصر من يقودهم، كما اهتم بالفقراء والضعفاء، وحرم عليهم أن يطلبوا الصدقات من الناس، إذ رتب لهم من بيت مال المسلمين ما يغنيهم عن الطلب.

وهذا كله إلى جانب اهتمامه العام بالدولة من جميع الوجوه، وذلك برفع شأنها بين الأمم، والحرص على نشر الدين في عدد كبير من بقاع الأرض.

وقد توفي ـ رحمه الله ـ في سنة 96هـ (714م)، وقد ذكره الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه السابق ذكره بإكبار شديد وختم كل ما تحدث به عنه بقوله: إنه هو: «السمح الجواد، البار.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الأنباء الكويتية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الأنباء الكويتية

منذ 3 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ ساعتين
منذ 4 ساعات
منذ 9 ساعات
صحيفة الوطن الكويتية منذ 10 ساعات
صحيفة السياسة منذ ساعة
صحيفة الراي منذ 7 ساعات
صحيفة الجريدة منذ ساعة
صحيفة الوطن الكويتية منذ 8 ساعات
صحيفة القبس منذ 10 ساعات
صحيفة الراي منذ 41 دقيقة
صحيفة القبس منذ 7 ساعات