ناصر الريماوي
بيروت زَوادةُ السَّهْلِ وليل الرفاق / ديسمبر 2012
في هذا الجزء، والأجزاء القادمة، سأنشر حواريات، ذات طابع تفاعلي وأدبي، تبادلتها مع مجموعة من الصديقات والأصدقاء. كنّا قد التقينا ذات يوم بعيد، وكان يجمعنا هذا الفضاء الأزرق بهالته الفريدة، وسط شغف مشترك بالنصوص، وولع لا يوصف بمتعة التفاعل معها.
حواريات «حكي»، هي جزء منّا ومن أيامنا، أنثرها هنا لتظل شاهدة علينا، أعيد تدوينها قبل أن تذروها عواصف النسيان وتندثر. شذرات خاطفة، عابقة بفوحها الآدمي، كأنما خطّها أصحابها بالأمس القريب، لا قبل عقد ونيف من الزمان
فَلَسْطِينُ.. كَيْ لَا نَنْسَى / نَاصِرٌ الرَّيْمَاوِيُّ
أصدقائي.. سأحدثكم عن فلسطين، عن «أنوار»، عن ذَاتَ نَهَارٍ بيروتي بعيد لَمْ يَكُنْ لِيُعْبَأَ بِهِ أَحَدٌ.
عن صَوْتُ زِنَادِ «كِلْشِنٍ» كان يَصْحُو عَلَى وَقْعِ الصَّرِيرِ، لِنَافِذَةٍ طَيَّرَتْ دُخَانَ تَبْغِنَا فِي فَضَاءِ الْفَاكِهَانِيِّ.
ذلك النهار، خَرَجَتْ «أنوار» بِلا رُتُوشٍ، تَشَبَّثَتْ بذلك ِالشَّارِعِ الْمَكْتظِّ، سَأَلَتْنِي عَنْ شَارِعِ الْحَمْرَاءَ، وَعَنْ مَسْرَحِ «الْبِيكَادِيلْلِي»، وَعَنْ فَيْرُوزَ الرَّحَابَنَةِ، «وَيَا دَارَا دُورِي فِينَا..»
وَحِينَ مَاطَلْتُهَا.. تَخَلَّتْ عَنْ أَحْمَرِ الشِّفَاهِ وَمَسْحَةِ الْخَدِّ، وَأَبْقَتْ عَلَى كُحْلٍ زَهِيدٍ يَشِعُّ فِي الْعَيْنَيْنِ.
وَحِينَ افْتَقَدْتُ لْلمِرْآةَ الصَّغِيرَةَ والتي لَمْ تَعُدْ فِي جَيْبِهَا الْخَلْفِيِّ، رَمَقَتْنِي بِعِتَابٍ: «وَمَا جَدْوَاهَا؟» قالت.
وَافْتَرَقَ الرَّمَشُ عَنِ الْجُفُنِ بَيْنَ مَدَارِسِ «الشِّيَاحِ» وَطَرِيقِ «الْحَازِمِيَّةِ».
اسْتَبَدَلَتْ بِآرْفَانَهَا الْمُثِيرِ، وَرَشَقَتْ غُرْفَتَنَا بِرَائِحَةِ الْبَارُودِ، وَقَالَتْ: «هَذَا مِنْكَ، وَلَكَ، فَلَا تُنْكِرْ مَا تَبَقَّى مِنْ وُجُودِي».
مُسْتَبِدَّةٌ هِيَ، رَشَقَتْنِي بِجَدِيلَةٍ صَفْرَاءَ. وَلَمَّا رَأَتْ «حَنْظَلَةَ» حِينَ جَاءَ يَسْعَى، تَخَلَّفَتْ عَنْ مَوْعِدٍ فَأَوْدَعَتْنِي رِسَالَةً قَصِيرَةً عَلَى غُبَارِ مِرْآةٍ فِي صَحْنِ الْغُرْفَةِ، قَالَتْ: «يُعَذِّبُنِي قَوْسُ الْمَدَى بَيْنَ مُخَيَّمٍ وَآخَرَ.. أَرَاكَ فِي صَيْدَا!!».
وَمَضَتْ خَلْفَ يَدَيْهِ الْمُعْقُودَتَيْنِ فِي عِتَابٍ عَمِيقٍ كَيْ تَرَى قِمَمَ الْجَلِيلِ، فَأَعَادَهَا «نَاجِي» عَلَى هودج الوصايا.. قَصَّتْ ضَفِيرَتَيْهَا وَهِيَ تَرُدِّدُ: «أَسْطُحُ الْبُيُوتِ فِي الْأَوْزَاعِيِّ ثُكُنَاتٌ مُرِيبَةٌ، خُذْنِي إِلَيْهَا».
حَرَمَتْنِي نَرْجِسَ الشِّفَتَيْنِ وَفَضَاءَ شَعْرِهَا، خَصْرُهَا عَلَى فِكْرَةٍ كَانَ تُوَاقًا لِرُمَّانِ الْقَنَابِلِ فِي مَعَسْكَرَاتٍ مُسَيَّجَةٍ بِالزَّنَابِقِ لَنَا، وَأَحْزِمَةِ الرَّصَاصِ. مَجْنُونَةٌ كَهَذَا التَّدَاخُلِ فِي الْعِشْقِ بَيْنَ أَزِيزِ الرَّصَاصِ وَأَغَانِيَ مَارْسيَلَ، تَنُوحُ وَيَنْسَلُّ كُحْلُهَا عَلَى كُوفِيَّةٍ مُسَدَّلَةٍ عَلَى وَقْعِ كَلِمَاتٍ لِلشَّيْخِ إِمَامَ، وَتُنْسِينِي.. لِأَنْتَظِرَ بَقَايَا أُنُوثَةٍ لَمْ تَعُدْ تَكْفِي.
تُدِيرُ دَوْلَابَ الْمُضَادَّاتِ الْأَرْضِيَّةِ لِطَائِرَاتٍ قَدْ تَأْتِي يَوْمًا، وَتَصْهَلُ، ثُمَّ تَضْحَكُ عَلَى شَاطِئِ الْغَرْبِيَّةِ، وَتَنْعَفُ بِالرَّمْلِ «مَايُوهَاتٍ» قُطُنِيَّةٍ لَمْ تُجَرِّبْهَا، لِصَبَايَا حَفِظْنَ عَنْ أُنُوثَتِهِنَّ كُلَّ شَيْءٍ.
«نَحْنُ الْفِلَسْطِينِيَّاتُ خُلِقْنَا لِهَذَا..»، وَتُشِيرُ لِكُومَةِ رَصَاصٍ فَارِغَةٍ نَحْوَ الْبَحْرِ.
لَمَ يَخْطُرْ بِبَالِي الْآنَ «رَشَّادُ أبو شاور» وَالْبَاخِرَةُ «سُولْفِرِينُ» وَالْبَحْرُ الْأَبْيَضُ الْمُتَوَسِّطُ، ورواية «الرَّبُّ لَمْ يَسْتَرِحْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ «، وَاللَّهِ لا أدري.
تُرَاهَا «أنوار» وَجُنُونُهَا الَّذِي يُطَارِدُنِي مِنْ مَنْفًى لِآخَرَ؟ كَانَ «رَشَّادُ» يَبْتَسِمُ وَهُوَ يَحْرُسُ الرُّوحَ عَلَى الْبَاخِرَةِ، وَيُفَكِّرُ بِمَصِيرٍ جَدِيدٍ، وَأَمَّا «أنوار» فَكَانَتْ طَيْفًا لَقَّنَتْهُ الْمَرَايَا لِمَنْ حَضُرْنَ بَعْدَ الْخُرُوجِ، بِكُحْلٍ عَلَى الْجُفُنَيْنِ لِوَجْهٍ حَنُونٍ بِلَا ضَفِيرَةٍ صَفْرَاءَ.
قَالُوا لِي وَأَنَا فِي مَنْفَايَ الْأَخِيرِ.. بِأَنَّهَا لَمْ تَخْلَعْ حِزَامَ الرَّصَاصِ، وَتَهْتِفُ لِلْأَرْضِ فِي انْتِظَارِهَا الْيَوْمِيِّ عَلَى حَجَرٍ. عَلَى مَفْرَقٍ بَيْنَ «الشِّيَاحِ» وَطَرِيقِ «الْحَازِمِيَّةِ».
فَلِمَ طَيَّرَتْ «أنوار» دُخَانَ تَبْغِنَا ذلك الْمَسَاءَ؟
وَمِنْ شَقٍّ ضَئِيلٍ لِنَافِذَةٍ ظَلَّتْ لِسِنِينَ مُوصَدَةً عَلَى سَمَاءِ «الْفَاكِهَانِيِّ» وَبَحْرِ بَيْرُوتَ..
أَلَمْ نَكُنْ نَتَخَفَّى وَرَاءَ صَرِيرِهَا كَيْ نَنْسَى؟
فَلَسْطِينُ.. زَوادةُ السَّهْلِ تكْفِي السَّهْلَ كُلَّهُ/ الشّاعرعَبْدُ السَّلَامِ الْعَطَّارِيُّ
صديقي..
خَرَجْنَا وَلَمْ تَخْرُجْ «بَيْرُوتُ» مِنَّا، هَذَا مَا جَرَى.
فَلَسْطِينُ، هِيَ الْأَرْضُ وَفِرَاشُ الْحَصَادِ، وَطَنِينُ اللَّيْلِ، وَمَوَّالُ نَاطُورِ مِقْثَاةِ الْبِطِّيخِ وَالشَّمَّامِ.
هِيَ حُلْمُ الْبَسَاطَةِ وَالْبُسَطَاءِ بِأَحْلَامِهِمُ النَّقِيَّةِ.. حُلْمُ جُوعِ مَاشِيَةٍ وَتَعْلِيلَةِ عُرْسٍ قَرِيبَةٍ.
هي عُمْرُنَا الْبَاقِي.
كُلَّمَا حَفَرْنَا فِي بِئْرِ الذَّاكِرَةِ، وَصَارَ اللَّجَفُ أَعْمَقَ، كُلَّمَا شِلْنَا غُمَارَ الْحَصِيدَةِ عَلَى النَّدَى، وَعَلَا صَوْتُكَ:
«عَ النَّدَى يَا وَارِدَةٍ عَ النَّدَى»..
هي الْغَزَلُ الْبَرِّيُّ وَخَجَلُ الْغَزَالَةِ الطَّافِحِ بِالْعِشْقِ، وَصُدْفَةُ الطَّرِيقِ وَرَشْقَةُ ابْتِسَامَةٍ مُبَلَّلَةٍ بِالشَّوْقِ
مَا أَجْمَلَ دُرُوبَ السَّهْلِ، كُلُّهَا تَمْتَلِئُ عِشْقًا!
هي الْفَرْقُ بَيْنَ نَجْمَةِ السَّهْلِ تَحُاكِيكَ حِينَ تَفْرِشُ قُشَّ النُّعَاسِ الرَّطِبَ، وَنَجْمَةِ الْمَدِينَةِ الَّتِي تَخْتَفِي وَتَتَجَرَّعُ الْمُرَّ.
تُعْلِي يَا صَدِيقِي كُلَّمَا اشْتَعَلَ بِكَ الشَّوْقُ لِحَنِينِ الْبَيْتِ وَالْبُيُوتِ الْبَاقِيَاتِ عَلَى الذَّاكِرَةِ.. مَا أَجْرَأَ أَنْ نَفْقَأَ عَيْنَ الْخَجَلِ بِكَلِمَةِ «أُحِبُّكَ»!
كَمْ كَانَ لَهَا طَعْمُ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ.. كَانَتِ الصَّكَّ الْأَبَدِيَّ!
وَالْوُرُودُ بِجِرَارِ الزَّمَنِ وَالْمَاءِ، يُرِدْنَ حَيْضَ رُوحِ الْبِلَادِ وَيَشْرَبْنَ مِنْ نَدَى عَبَّادِ الشَّمْسِ.. يُفْرِشْنَ زَادَ الضُّحَى: «فَحْلَ بَصَلٍ، وَلَبَنَ الصَّيْفِ، وَخُبْزَ طَابُونٍ يَتَحَمَّرُ، وَشَايًا يَغْلِي عَلَى جَمْرِ عَصَبِ التَّبْغِ.»
لَا تَغِيبُ النُّجُومُ يَا صَدِيقِي، وَإِنَّمَا تَهْجَعُ عَلَى وَقْعِ هَجِيعِ قَطِيعِ مَاشِيَةٍ وَرَاعٍ يَشْقَحُ بِطِّيخَةً تَنْعَفُ رَائِحَتُهَا كُلَّ السَّهْلِ.هِيَ يَا صَدِيقِي بِطِّيخَةُ السَّهْلِ تَكْفِي السَّهْلَ كُلَّهُ.. هِيَ زَادُ السَّهْلِ يَكْفِي السَّهْلَ كُلَّهُ..
هِيَ كَلِمَةُ حُبٍّ لَا بَعْدَهَا كَلِمَاتٌ.
ليل الرفاق.. ذاكرة بلا مسميات/ رائدة الشلالفة
صديقاي..
تَرْتَجِفُ.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الدستور الأردنية
