في زاوية صغيرة داخل إحدى الشقق السويدية، يضع الفنان العراقي أسامة السبعي أدواته بدقة، يشعل ضوءه الهادئ، ويمسك قطعة الفحم كما لو كان يُمسك بها ذكرياته.أسامة، شاب في الثلاثينيات من عمره، وصل إلى السويد لاجئًا قبل سنوات قليلة، حاملًا معه شغفًا قديمًا وموهبة فطرية في الرسم. لم يتعلّم في معاهد متخصصة، ولم يدرس الفن أكاديميًا، لكنه منذ طفولته كان يجد في الورقة البيضاء ملاذًا، وفي الألوان وسيلة لفهم العالم من حوله.موهبة فطرية تبحث عن مساحةيستخدم السبعي خامات بسيطة لكن ذات أثر طويل المدى: الفحم، الباستيل، والورق الحيادي الذي يعيش لعقود. هذه الخامات لا تُختار صدفة، بل تعكس أسلوبه في التعبير عن الزمن، والحنين، والعمق الداخلي الذي يطغى على وجوه شخوصه.وقال السبعي لمنصة المشهد إنّ "الرسم ليس شيئًا تعلمته من كتاب، بل جاء معي منذ كنت صغيرًا في العراق. كل لوحة أرسمها فيها شيء مني.. من الحنين، ومن الوجوه التي غابت، ومن التفاصيل التي لا تزال تسكنني".لوحاته تحمل بصمة شخصية واضحة: وجوه صامتة، عيون متأملة، ظلال كثيفة، وتفاصيل تختلط فيها ملامح الوطن بالأماكن الجديدة التي يعيش فيها اليوم. وكأنّ كل لوحة هي محاولة لخلق توازن بين مكانين، أو للبحث عن مكان ثالث لا يشبه أحدًا.بين الهوية والاندماجرحلة أسامة في السويد لم تكن خالية من التحديات. كلاجئ وفنان مهاجر، وجد نفسه في مواجهة مجتمع جديد، بلغة وثقافة وذائقة مختلفة. وعلى الرغم من ذلك، بدأ يشق طريقه بهدوء، من خلال مشاركته في معارض محلية صغيرة، وورش فنية موجهة للأطفال واليافعين، حيث حاول أن يقدّم فنه كجسر ثقافي بينه وبين المجتمع السويدي.ويضيف أسامة، "كثيرون لا يفهمون خلفياتنا، أو لا يعرفون شيئًا عن الثقافة البصرية في مجتمعاتنا. الفن كان الطريقة الأفضل لأقول من أنا، من دون الحاجة للشرح أو التبرير".بالنسبة له، الفن ليس فقط مساحة للتعبير الشخصي، بل أيضًا وسيلة لإعادة تقديم صورة الإنسان القادم من مناطق الصراع، بعيدًا عن الصور النمطية التي تطغى في وسائل الإعلام.فن يقاوم النسيانفي عالم سريع الإيقاع، يبقى أسامة مخلصًا لخط يده، وللتفاصيل البسيطة التي قد تبدو "قديمة" أمام الوسائط الرقمية الحديثة. لكنّ هذا الانحياز للبطء والتأمل هو ما يعطي أعماله طابعها الخاص.وعلى الرغم من أنه لا يسعى للشهرة، ولا يتعامل مع الفن كمنتج استهلاكي، إلا أنّ لوحاته بدأت تلفت الانتباه، وتثير أسئلة لدى من يراها: من هؤلاء الأشخاص في اللوحات؟ ولماذا تبدو عيونهم كأنها تبحث عن شيء ما؟أسامة السبعي ليس فقط فنانًا يرسم، بل مهاجرًا يعيد تشكيل العلاقة بينه وبين العالم، من خلال اللون والخط والظل. في كل لوحة، يعيد طرح الأسئلة التي يحملها معه منذ أن غادر وطنه: كيف نحافظ على هويتنا؟ كيف نندمج من دون أن نذوب؟ وهل يمكن للفن أن يكون بيتًا حين نفقد البيت الحقيقي؟ربما لا يملك الإجابات كلها، لكنه يواصل الرسم. بخط فحم، أو لمسة لون، أو مجرد ورقة جديدة تنتظر أن تحكي شيئًا.. لا يُقال بالكلام.للمزيد :-الرسم التجريدي(المشهد - السويد)۔
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد
