كثيرًا ما نفهم الأمور فهمًا أعمق حين نصغي بهدوء إلى نقاش جاد، أكثر مما نفعل حين نكدّس مسلّمات جاهزة. لطالما اعتقدتُ أن الإسلاموفوبيا ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى، نشأت في سياق ظروف تاريخية حديثة، مثل الثورة الإيرانية سنة 1979 وما رافقها من عداء أمريكي، ثم انتقال المقاومة الفلسطينية من مرجعية علمانية إلى مرجعية إسلامية صريحة. وكان هذا التفسير يبدو لي كافيًا. غير أن استماعي إلى بودكاست للبروفيسور ريمي براغ Rémi Brague، بعنوان: “ما هو الإسلام؟”، دفعني إلى إعادة النظر في هذا التصور.
وحين طُرح عليه السؤال المتكرر: “لماذا يُوصَف الإسلام بالعنيف؟”، أجاب ببساطة لافتة: “الإسلام ليس عنيفًا، بل هو قوي. وهما أمران مختلفان تمامًا”. هذا التمييز، على بساطته الظاهرية، يكشف في الحقيقة عن كثير من سوء الفهم. فالقوي لا يحتاج إلى العنف كي يُقلق الضعيف، بل الضعيف هو الذي غالبًا ما يُدرك القوة المجردة والهادئة في ذاتها على أنها تهديد وعنف. وليس الخطر المتوهَّم هو ما يخيفه، بل مجرد صلابة ما يقف أمامه. وهنا، في نظري، تكمن إحدى الجذور العميقة للإسلاموفوبيا، لا بوصفها مجرد ظاهرة سياسية، بل كظاهرة ذات بعد عقدي وثقافي عميق.
فمنذ نشأته في مكة، يقدم الإسلام مثالًا واضحًا على ذلك. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في موقع ضعف من الناحية البشرية والاجتماعية. ومع ذلك، أثارت رسالته خوفًا حقيقيًا لدى سادة قريش. ليس بسبب أي عنف منعدم الوجود من أصله، بل بسبب قوة الإسلام الذي دعاهم إليه في مواجهة مع وثنية مقدسة لكنها هشة في جوهرها. فالإسلام بمجرد قوته الذاتية شكل تهديدًا لمعتقداتهم الخرافية. فلم يكن اعتراض سادة قريش على عنف مادي حقيقي، بل على مجرد قوة الإسلام الذي سفه أحلامهم. فشكل ذلك الاعتراض بداية الإسلاموفوبيا، أي الخوف من الإسلام. وتطورت إلى عنف في مقابل مجرد قوة، وليس العكس. فالإسلام قوي فقط، والإسلاموفوبيا هي العنيفة.
ولتقريب الفكرة، يمكن استعمال تشبيه بسيط. القول إن 1 + 1 = 2 هو قول قوي، لكنه غير عنيف. أما الادعاء بأن 1 + 1 = 3، أو أي قيمة أخرى غير 2، فهو قول ضعيف في ذاته. من يُقدّس هذا الخطأ لا يشعر بالاعتداء لأنه يتعرض لهجوم فعلي، بل لأنه يستشعر صلابة الحقيقة التي تواجهه. ليست قوة 1 + 1 = 2 هي التي تمارس القمع، بل ضعف 1 + 1 = 3 حين يُضفى عليه طابع مقدس، فيرتعب ويدافع عن نفسه بالعنف. فالقوة تكون دائمًا في جانب الحقيقة، بينما يظهر العنف غالبًا في جانب الضعف. وتلك هي حقيقة الإسلام: دين قوي في جوهره، في مواجهة إسلاموفوبيا يغلب عليها العنف. فإسلام قوي في مقابل إسلاموفوبيا عنيفة، لا العكس.
وتؤكد سيرة المسلمين الأوائل هذا المنطق، من الاضطهاد في مكة إلى الهجرة نحو المدينة ثم صلح الحديبية. حين قبل النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة المسلمين الجدد من أهل مكة إلى المشركين، وسمح لمن اختار ترك الإسلام أن يغادر المدينة دون إكراه، فاستغرب بعض الصحابة ذلك. أما هو، فلم يكن قلقًا، لأنه كان واثقًا من إيمان أساسه حقيقة قوية وراسخة: فالمؤمن الذي يُعاد إلى قومه ليس ضائعًا، بل قد يكون سببًا في هداية غيره. ومن اختار الانتكاس إلى الوثنية فله حرية العودة إلى من يشاركونه تلك القناعة.
ومنذ ذلك الحين، حيثما استقر الإسلام عبر التاريخ، كان انتشاره قائمًا على القناعة أكثر من أي أمر آخر متوهم. وعلى العكس من ذلك، فإن القوى الأوروبية الإمبريالية التي استعمرت أراضٍ إسلامية واسعة تمتعت بحرية كاملة في التبشير، ومع ذلك فشلت في تحويل شعوبها عن دينها. وفي المقابل، اعتنق بعض المستوطنين والمقيمين الأوروبيين الإسلام بعد احتكاك حقيقي بالمجتمعات المسلمة، عن اقتناع عميق. وكان من بينهم الرسام الفرنسي إتيان دينيه Étienne Dinet، والكاتبة والإعلامية إيزابيل إيبرهارت Isabelle Eberhardt، والكاتب المفكر رينيه غينون René Guénon، والإعلامي اليهودي الأصل ليوبولد فايس Leopold Weiss، والكاتب المستكشف البريطاني جاك فيلبي Jack Philby. فلم يكونوا سذّجًا ولا انتهازيين، بل كانت خطواتهم ثمرة قطيعة فكرية مع الإيديولوجيا السائدة في بلدانهم، واعترافًا بالإسلام كنظام حياة روحي متماسك وعقلاني حي، ويجيب عن الأسئلة الكبرى.
ولا تزال هذه الظاهرة مستمرة.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من هسبريس
